وثائق “باندورا” والفساد يهزّان لبنان من جديد

هدى علاء الدين

أثارت وثائق “باندورا” التي انتشرت في نهاية الأسبوع الفائت، بلبلة في عالم السياسة والمال والاقتصاد، وجوبهت بالإنكار والرفض من العديد من الشخصيات التي طالتها في مختلف الدول. وكغيره من البلدان التي شملتها هذه الوثائق، كانت للبنان حصة فيها أثارت اهتمام الرأي العام، نظراً لمسيرته الشائكة في مجال التهرّب الضريبي واللجوء إلى الملاذات الضريبية وانتشار الفساد فيه.

فما هي وثائق “باندورا”؟

هي وثائق سرية أعلن عنها الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين في الثاني من تشرين الأول الجاري، وبدأ بنشرها في الثالث منه. تشمل تسريبات لنحو 12 مليون مستند يكشف عن ثروات سرية وتهرّب ضريبي وغسيل أموال من بعض زعماء العالم وأثريائه. وقد استند التحقيق، الذي أسهم فيه نحو 600 صحافي، إلى نحو 11,9 مليون وثيقة مصدرها 14 شركة للخدمات المالية، وسلّط الضوء على أكثر من 29 ألف شركة “أوف شور” تتعلّق بشخصيات عامة. كما كشفت الوثائق عن الحسابات السرية الخارجية التي يمتلكها 35 من رؤساء الوزراء والرؤساء وقادة الدول، إضافة إلى حسابات 100 ملياردير وشخصية شهيرة وعدد من أصحاب الأعمال. وبحسب الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، فإنّ هذا الكشف هو الأكبر حتى الآن، بحيث يتضمّن مستندات وصوراً وجداول ممتدة من 14 شركة في قطاع الخدمات المالية، في كل من بنما وسويسرا والإمارات العربية المتحدة، راجعها 600 صحافي من 117 دولة و150 مؤسسة إخبارية، متخطياً بذلك الكشف السابق الذي سُمي “أوراق بنما” في 2016، والذي تضمّن 11.6 مليون وثيقة.

جنات ضريبية وأموال مُهرّبة

في وقت يتطلع فيه لبنان لخريطة طريق لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية، وأبرزها تلك المتعلّقة بالشؤون الضريبية كمورد أساسي لزيادة إيرادات الدولة في ظلّ العجز المتراكم في خزينتها، أتت وثائق “باندورا” لتؤكد على توسّع ظاهرة التهرّب الضريبي الذي أصبح مؤشراً رئيسياً يعكس حجم الفساد وعدم القدرة على ضبطه، مع تقديرات للبنك الدولي لقيمة التهرّب الضريبي من عدم جباية الضرائب على الأرباح بنحو 4.5 مليارات دولار سنوياً، أي ما يعادل نحو 8.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولعل أبرز أوجه الفساد، ما أظهرته الوثائق من توجّه شخصيات سياسية ومالية لبنانية بارزة للملاذات الخارجية بهدف التهرّب الضريبي، بحيث تصدّر لبنان لائحة عدد شركات الـ”أوف شور” التي تأسّست عبر شركة Trident Trust للخدمات المالية، المزوّدة الأكبر لهذه الوثائق المسرّبة بنحو 3 ملايين وثيقة، مع وجود 346 ملفاً لمواطنين لبنانيين. إذ أظهرت التسريبات لجوء سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال إلى تسجيل شركاتهم في الجنات والملاذات الضريبية بهدف إخفاء أموالهم وتهريب ثرواتهم إلى الخارج.

فساد مستشرٍ وفعالية معدومة

إلى جانب ظاهرة التهرب الضريبي، يعاني لبنان ظاهرة الفساد المتفشية في مرافقه وقطاعاته البنيوية والحيوية، والتي ساهمت في تقويض قدرته على النهوض. وفي أحدث المؤشرات السنوية الصادرة عن البنك الدولي، والمتعلقة بالحوكمة والإدارة الرشيدة، والتي تغطي 214 دولة من مختلف أنحاء العالم، تقدّم لبنان في مؤشر واحد فقط من مجموع ستة مؤشرات في العام 2020، في حين تراجع في المؤشرات الخمسة الباقية، ليسجّل بذلك أداء ضعيفاً ومتراجعاً فيها مقارنة بالعام الماضي. وتشمل مؤشرات الحوكمة العالمية ستة أبعاد رئيسية، هي، الصوت والمساءلة، الاستقرار السياسي وغياب العنف، فعالية الحكومة، الجودة التنظيمية، سيادة القانون، ومكافحة الفساد. وبناء على هذه المعطيات، تم تصنيف لبنان في المرتبة الـ 185 عالمياً، في حين حصل على المرتبة الـ 15 بين 20 دولة عربية لجهة فاعلية الحكومة. هذا المؤشر الذي يعكس جودة الخدمة العامة والمدنية ومدى استقلالها عن الضغط السياسي، فضلاً عن جودة السياسات ومدى تطبيقها، وصدقية التزام الحكومة بها. وفي ما يتعلق بمؤشر مكافحة الفساد، فقد أتى لبنان في المركز 184 عالمياً والـ 15 إقليمياً متقدماً على العراق والسودان وليبيا واليمن وسوريا.

يحرم التهرّب الضريبي الخزينة اللبنانية من إيرادات مالية تقدّر بمليارات الدولارات، تراوح بحسب تقديرات جهات رسمية ومالية محلية ودولية ما بين 1.7 مليار إلى 6 مليارات دولار سنوياً، فيما تصل تقديرات الخبراء الاقتصاديين إلى نحو 7 مليارات دولار سنوياً، أي نحو 40 في المئة من حجم الإيرادات الضريبية وغير الضريبية. وفي هذا الإطار، اعتبر خبير مالي رفيع المستوى في حديث له مع موقع “لبنان الكبير”، أنّ تراجع نسبة شركات الـ”أوف شور” في لبنان (التي كانت تخضع لضريبة بقيمة مليون ليرة لبنانية فقط)، يعود إلى القرارات المشدّدة التي تم اتخاذها في العام 2019 من مصرف لبنان ووزارة المال بهدف تشديد مكافحة التهرّب الضريبي والحدّ من هذه الشركات بسبب دورها البارز في عمليات تبييض الأموال التي كانت تجري عبر تحويل الأموال من الخارج إلى لبنان، بذريعة أنّ الشركات المؤسّسة في الملاذات الضريبية ترسل أموالها إلى الشركة الأم، وهي فعلياً شركات وهمية غير حقيقية، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لمكافحة التهرّب الضريبي، خصوصاً تلك المتعلّقة برفع السرّية المصرفية في حال إثبات واقع التهرّب، إضافة إلى فرض العقوبات الجزائية التي تنصّ عليها القوانين ذات الصلة، الأمر الذي سمح بلجوء الأفراد والشركات إلى الملاذات الضريبية في الخارج لتوفير الضرائب بما يُعرف بالتجنّب الضريبي وليس التهرّب الضريبي لأنها تتم بطريقة مشروعة، إلا أنها تحرم خزينة الدولة من الضرائب التي تولد إيرادات وعائدات مالية تحتاجها لتمويل مشاريعها الحيوية والتنموية. ومع اندلاع الثورة، وبروز الأزمات الاقتصادية والمالية، لم يكن هناك أي ملاذ لتهريب الأموال إلا عبر تأسيس شركات خارج لبنان لا تخضع بموجبها للضرائب، وبالتالي تكون وسيلة لحفظ الأموال، وفي الوقت عينه تُشكل حجة شرعية بغطاء تجاري لكن لأسباب احتيالية، مشيراً إلى أنّ هذه العوامل جميعها أسهمت في انتعاش سوق الـ”أوف شور” خارج الحدود اللبنانية وإلى خلق أسواق جديدة للشركات الوهمية على غرار دبي وجزر الملاذات الضريبية كوجهة مثالية بعيداً من الرقابة وتهرّباً من المحاسبة، مشيراً إلى وجود قصور في النظام الضريبي الذي يحتاج إلى العديد من الخطوات الإصلاحية لتتناسب مع مختلف شرائح المجتمع، انطلاقاً من مبدأ تحقيق العدالة في توزيع الأعباء الضريبية على المكلّفين، والحد من التجنّب والتهرّب الضريبي، لا سيما أنّ وثائق “باندورا” كشفت عن اختلالات جوهرية وأساليب غير أخلاقية لتحويل رجال الأعمال والسياسة والأثرياء أموالهم وتهريبها إلى الخارج، في الوقت الذي كان يشهد فيه لبنان قيوداً مشدّدة من المصارف تجاه المودعين، والتي على ما يبدو كانت استنسابية وغير عادلة حمت أموال فئة معيّنة من أي انهيار أو تلاشٍ لقيمتها على حساب فئة كبيرة من اللبنانيين تم تحميلها الجزء الأكبر من الخسائر المالية.

شارك المقال