هل يوقف إنشاء “صندوق تثبيت القطع” انهيار الليرة؟

هدى علاء الدين

يأخذ الحديث عن صندوق تثبيت القطع حيزاً مهماً في الأوساط المالية والنقدية، في ظلّ تدهور وانهيار غير مسبوق للعملة الوطنية استنزف معظم قيمتها. وما بين مؤيّد ومعارض لإنشاء هيئة النقد، تخسر الليرة اللبنانية يوماً بعد يوم كل مقوّمات الثقة التي تجعل من نهضتها في القريب العاجل مهمةً شبه مستحيلة، مع تفاقم وتيرة الأزمات النقدية والمصرفية وانعكاساتها السلبية على الأسواق المالية.

ما هو صندوق تثبيت القطع؟

صندوق تثبيت القطع الذي فرض التحرير التدريجي لنظام القطع ضرورة وجوده، تم تأسيسه بموجب المرسوم الرقم 8 في 6 تشرين الأول 1949، كأحد عناصر نظام الرقابة على القطع القائم آنذاك، والذي تشرف عليه وزارة المال، بحيث تمحور دوره على الحفاظ على ثبات سعر صرف العملة اللبنانية ومنع حصول تقلبات كبيرة في سعر صرفها. ينطلق الصندوق أو ما يُعرف بالـ Currency Boardمن فرضية أساسية مفادها أنّ الأزمة تكمن في تدهور سعر صرف العملة الوطنية، فيعمل على معالجة الخلل فيها. إلا أنّ هذه الفرضية لا يمكن تطبيقها في لبنان، يقول خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي، الذي أشار إلى أنّ تدهور سعر الليرة ليس هو المشكلة بحدّ ذاته، بل المشكلة نتيجة تراكم مشاكل جمّة أهمها الإفراط في الصرف من دون الأخذ في الاعتبار قدرة الدولة على الإنفاق. فخلال سنوات عدة، كان العجز في الخزينة يأخذ منحى تصاعدياً عاماً بعد عام، لكنّ المؤشرات الاقتصادية كانت تنظر إلى العجز على أنه نسبة من الناتج القومي. وبالتالي، فإنّ تحقيق لبنان نسباً جيدة لناحية قيمة هذا الناتج، أخفى مشكلة العجز التي لا تظهر بشكل مباشر إلا في حال وجود تراجع في قيمته.

وفي حديث له مع موقع “لبنان الكبير”، رأى فحيلي أنّ تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار على الـ 1507 ليرة ما بعد الحرب الأهلية، واجه سياسات نقدية لم تسمح للاقتصاد اللبناني بالتكيّف بحرّية مع الظروف الاقتصادية السائدة. فعلى سبيل المثال، في الحقبة التي كان فيها ميزان المدفوعات يحقّق فائضاً جيداً، كان يجب على مصرف لبنان تحرير سعر الصرف بما يتناغم مع قدرته على التدخّل في سوق القطع بسبب هذا الفائض من العملة الأجنبية. إلا أنّ المركزي لم يتّجه إلى هذا الخيار، بل أبقى على إدارته إقراض الدولة وتغطية عجز الموازنة والانتقال من تمويل العجز إما بالليرة اللبنانية أو بالعملة الأجنبية، متجاهلاً الظروف الاقتصادية التي كانت سائدة.

القدرة على التأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية

وفي ما يتعلق بعمل الـCurrency Board، فإنه ينطلق من خلال ربط العملة الوطنية بعملة أجنبية، وفي حالة لبنان هي الدولار. لكن الفرق بينه وبين المصرف المركزي أنه يطبع العملة الوطنية بموجب قانون يمنحه في المقابل غطاء بالعملة الأجنبية بنسبة 100 في المئة (على افتراض توافر العملة الأجنبية). ويعتقد فحيلي أنّ العامين الماضيين أثبتا أنّ الاقتصاد اللبناني قادر على التأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية، وما يحصل في سعر صرف الليرة أو في السوق السوداء ليست له علاقة بهذه المتغيّرات الاقتصادية. فماذا يقصد بذلك؟

يقول فحيلي أنه وبسبب المتغيّرات الاقتصادية، تراجع الاستيراد في لبنان من 22 مليار دولار إلى ما بين الـ 7-10 مليارات، لافتاً إلى أنّ التراجع الحاد في قيمة الاستيراد يعني أنّ الطلب على الدولار تراجع كثيراً، الأمر الذي وجد ردّات أفعال معاكسة، بحيث تم التوجّه نحو الاعتماد في السلة الاستهلاكية على سلع المنتوجات الوطنية التي دخل البعض منها في فلك التصدير إلى الخارج. من جهة أخرى، تساعد تحويلات المغتربين إلى ذويهم، والتي تُقدّر بنحو 7 مليارات دولار سنوياً (أي ما يعادل قيمة فاتورة الاستيراد اليوم)، بطريقة غير مباشرة، على تمويل الاستيراد مع الأخذ في الاعتبار أنّ كل هذه التحويلات هي تحويلات لدعم الاستهلاك وليس للاستثمار كما كان يتم سابقاً.

وعن تأثير تحرير أسعار المحروقات لناحية ارتفاع الدولار وما سينتج عنه من ضغوط تضخمية كبيرة، يعتقد فحيلي أنّ هناك جانباً إيجابياً لا يراه الكثيرون، يتمثل في أنّ المواطن سيضطر بسبب تحرير أسعار المحروقات إلى استعمال دولاراته المخبأة في الخزنات الحديدية، والتي تُقدّر بنحو 20 مليار دولار (وهنا يقول فحيلي أنّ المبلغ كبير، متوقّعاً وجود نصفه)، من أجل دعم مصروفه بما هو محتاج إليه، وهذا سيزيد من عرض الدولار في السوق المحلية. هذا إضافة إلى أنه في نهاية شهر تشرين الأول، وبعد استفادة العديد من المودعين من التعديلات بأحكام التعميم 158 وإبقاء مصرف لبنان على أحكام التعميم 151 كما هي، فإنّ هذه السحوبات الدولارية الفريش ستزيد من عرض الدولار في السوق، وهذا بحد ذاته عامل مهم من أجل التكيّف مع الظروف الاقتصادية، والذي يؤدّي إلى انتفاء الحاجة للـ Currency Board ويُعزز من قدرة المصرف المركزي على تمويل فاتورة الاستيراد التي تضغط بشكل رئيسي ومباشر على سعر الصرف في لبنان.

السوق السوداء مقاربة غير سليمة

ويرى فحيلي ضرورة التفريق بين السبب والنتيجة، فالايجابيات التي رافقت تشكيل الحكومة دفعت باتجاه التخفيف من منسوب الخوف عند المواطن اللبناني، وبالتالي انخفض الدولار إلى 13 ألف ليرة. لكن زوال هذه الإيجابيات وفقدان المواطن الثقة في إيجاد الحلول، أثرت بشكل مباشر في سعر الصرف الذي عاود الارتفاع بسبب تزايد الطلب على الدولار. من هنا، يعتبر فحيلي أنّ حلّ المشكلة- التي تدفع كلاً من المواطن اللبناني إلى اللجوء إلى العملة التي يثق بها كعملة آمنة، والمُضارب الذي يستغل خوف المواطن فيستثمره لمصلحته بائعاً أو شارياً الدولار- أمر ضروري لا يمكن إغفال أهميته وتأثيره. ويُعطي مثالاً على ذلك، أنه عندما انخفض الدولار، قلّة قليلة من الصرافين باعوا الدولار إلى المواطن، لكن أكثرهم سارعوا إلى شرائه، في حين عندما ارتفع متخطياً حاجز الـ 23 دولاراً، انعكست العملية بشكل تام بحيث هرب الصرافون من الشراء وهرولوا إلى بيعه.

ويختم فحيلي بالقول: “إنّ السوق السوداء التي يتم أخذها كمؤشر العافية أو اللاعافية في الاقتصاد اللبناني هي أمر خاطئ ومقاربة غير سليمة. وإذا كانت هذه هي الانطلاقة من أجل الدفع باتجاه الـ Currency Board، فهي بداية خاطئة من قبل الاقتصاديين الذين يطالبون بتأسيسه من أجل حل مشكلة التفلّت غير المنظّم في سعر الليرة اللبنانية، والذي هو نتيجة وضع غير طبيعي يعيشه لبنان مدة طويلة.

شارك المقال