أين المواطن من تقشف الموازنة وإعادة الهيكلة؟

المحرر الاقتصادي

تعمل الحكومة اليوم على أكثر من صعيد لتوفير المؤشرات والارقام المطلوبة من صندوق النقد الدولي كمحطة أساسية لتحديد المسار الذي يجب أن يسلكه لبنان في المرحلة المقبلة من أجل توفير الأرضية المتينة الضرورية لنهوض الاقتصاد ووضع جدول بالإصلاحات والتمييز بين الآني منها والمتوسط والطويل الأجل.

وفي وقت أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن مشروع موازنة العام 2022 بات شبه جاهز، وأن ما تقوم به وزارة المال اليوم هو اعادة النظر في الارقام قبل رفع المشروع الى مجلس الوزراء لدرسه واقراره وتحويله الى لجنة المال والموازنة النيابية، فإن العديد من التساؤلات تطرح اليوم عن مستوى التغييرات التي ستطرأ على بند الايرادات التي لا تزال تحتسب اليوم على أساس سعر الصرف الرسمي، كما هو الامر بالنسبة الى الارقام الاجمالية للموازنة، وعن الضرائب التي ستطالها الزيادات من أجل تغطية النفقات ولا سيما منها اذا ما تم إقرار زيادة الاجور لموظفي القطاع العام.

في المعلومات الواردة في هذا الاطار، أن الحكومة تنطلق في تحضير مشروع موازنة تقشفية لعام 2022 مع عجز في المالية العامة يجب ألا يتجاوز الـ2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. فحسابات الدولة تشكل نقطة الضعف الأبرز في بنية الاقتصاد، وبالتالي لا بد لأي خطة إنقاذ أو تعافٍ اقتصادي من أن تتضمن تصحيحاً لأوضاع المالية العامة كشرط أساسي لأي خروج من الأزمة في المستقبل.

في الارقام المتوافرة ما وزعته وزارة المال عن وضعية المالية العامة خلال الأشهر الخمسة الاولى من العام الحالي، والمحتسبة على أساس سعر الصرف الرسمي. فقد بينت الأرقام أن عجز الدولة انخفض بنسبة 85.58 في المئة ليبلغ 434 مليار ليرة نتيجة تراجع النفقات العامة بنسبة 19.48 في المئة وارتفاع الايرادات بنسبة 29 في المئة. وقياساً إلى النفقات، انخفضت نسبة عجز المالية العامة من 34.5 في المئة في الاشهر الخمسة الاولى من العام 2020 الى 6 في المئة في الاشهر الاربعة هذا العام. وانخفض العجز الاولي، اي الذي تستثنى منه خدمة الدين، بنسبة 167.9 في المئة ليبلغ 731.8 مليار ليرة.

فقد تراجعت النفقات العامة من 7 آلاف و915 مليار ليرة في الاشهر الخمسة الاولى من 2020 الى 6 آلاف و373 مليارا حاليا. ويعود تراجع النفقات العامة الى انخفاض نفقات الموازنة توازياً مع نفقات الخزينة. فنفقات الموازنة، التي تشكل نحو 99 في المئة من النفقات الاجمالية، سجلت انخفاضاً بنسبة 19.4 في المئة بفعل انخفاض خدمة الدين بنسبة 40.7 في المئة جراء اعلان الدولة التوقف عن سداد مستحقاتها من سندات اليوروبوندز، وانخفاض السلفات الممنوحة لمؤسسة كهرباء لبنان بنسبة 31 في المئة.

في المقابل، ارتفعت الايرادات العامة من 4 آلاف و787 مليار ليرة الى 6 آلاف و178 مليارا في الاشهر الخمسة الاولى من العام الحالي، اذ ارتفعت الايرادات الضريبية بواقع 20.62 في المئة (ومنها الضريبة على القيمة المضافة التي ارتفعت بنسبة 98.7 في المئة، والرسوم العقارية بنسبة 56.22 في المئة)، في حين ارتفعت الايرادات غير الضريبية بواقع 93 في المئة، ومنها ايرادات الاتصالات بواقع 252.9 في المئة. وقد تراجعت الرسوم على السلع الملتهبة اي الفيول بواقع 15 في المئة نتيجة الدعم لتصل الى 249.3 مليار ليرة.

لا مؤشرات ايجابية

ومن ضمن المؤشرات التي ترسم صورة واضحة عن الواقع المالي والنقدي، ميزان المدفوعات الذي سجل عجزاً تراكميا هو 1.6 مليار دولار في الأشهر التسعة الاولى من العام الحالي مقابل عجز بقيمة 9.6 مليارات دولار في الفترة عينها من العام الماضي. وكان الميزان حقق فائضاً في ايلول بقيمة 800 مليون دولار نتيجة الارتفاع المهم في الموجودات الصافية بالعملات للمصرف المركزي بعد ايداع حصة لبنان من حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي.

أما أسباب العجز التراكمي المسجل خلال الاشهر التسعة الاولى من العام، فمردها الى تراجع الموجودات الصافية بالعملات لمصرف لبنان بواقع 3.7 مليارات دولار مقابل ارتفاع في تلك التي لدى المصارف بواقع 2.14 ملياري دولار. وفي أيلول، ارتفعت الموجودات الصافية بالعملات للقطاع المالي بواقع 784.6 مليون دولار مقارنة بانخفاض قيمته 593 مليون دولار في آب، و2.1 ملياري دولار في أيلول 2020.

ويُعزى ارتفاع موجودات المصارف الصافية الى أمرين، الأول زيادة السيولة في الخارج نتيجة التزام العديد منها بالتعميم 154 الذي يهدف إلى إعادة تفعيل المصارف العاملة في لبنان، والثاني تراجع مطلوباتها الخارجية ولا سيما الى القطاع المالي غير المقيم والودائع لغير المقيمين. وهي مبالغ تحسم من الاموال التي تكوّنها المصارف في الخارج.

ولا يزال القطاع المصرفي يشهد المزيد من التراجع في حجم ودائعه وتسليفاته وإن بوتيرة أقل مما سجلته سابقاً. فالودائع تراجعت بقيمة 6.7 مليارات دولار خلال تسعة أشهر لتصل الى 137.67 مليار دولار، مقابل تراجعها بـ16.7 ملياراً في الفترة عينها من العام الماضي. علماً أنها إنخفضت بـ28.61 مليار دولار منذ شهر تشرين الأول 2019 وحتّى نهاية العام 2020 على إثر إجراء بعض السحوبات نتيجة الإحتجاجات واستقالة الحكومة آنذاك.

ويأتي التراجع خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2021 نتيجة إنكماش ودائع القطاع الخاصّ المقيم بنسبة 4.69 في المئة إلى 106.55 مليارات دولار ترافقاً مع إنخفاض ودائع القطاع الخاصّ غير المقيم بنسبة 5.16 في المئة إلى 25.94 مليار دولار. كما تدنّت ودائع القطاع العامّ بنسبة 5.41 في المئة إلى 5.19 مليارات. ويُعزى التراجع في الودائع إلى السحوبات الكبيرة خوفاً من أي إقتطاعات قد تطالها في حال تمّ الإتّفاق على خطّة تعافٍ مع الحكومة.

الامر عينه حصل في محفظة التسليفات التي تراجعت بواقع 6.2 مليارات دولار الى 30 مليار دولار، مقابل تراجع بـ 11.2 مليار دولار في الاشهر التسعة الاولى العام الماضي.

وانخفضت حسابات رأس المال المجمّعة العائدة للمصارف بنحو 3.02 مليارات دولار مع نهاية أيلول 2021 إلى 16.91 مليار دولار نتيجة الخسائر التي تكبّدها القطاع خلال عام 2020 والمستمرة الى اليوم.

كل ذلك يستدعي السعي الى اعادة هيكلة القطاع الرافض الى اليوم هذا الاجراء، على ألا يكون المودع هو الحلقة الأضعف. وإلا، فسيؤدي الإخفاق في إعادة هيكلة النظام المالي إلى ترك لبنان مع مصارف غير مؤهلة لدعم التعافي الاقتصادي.

شارك المقال