أموال المودعين تتآكل بانتظار إجراءات الهيكلة

هدى علاء الدين

لن تكتمل رحلة تعافي لبنان المالية واستعادة نهوضه الاقتصادي من دون إعادة هيكلة المصارف الذي يُعدّ مطلباً رئيسياً وركناً أساسياً في المفاوضات المرتقبة مع صندوق النقد الدولي. القطاع المصرفي الذي يشهد منذ أكثر من عامين اختلالات جوهرية في بنيته وتدميراً لعلاقته مع مودعيه الذين فقدوا تقتهم التامة به، يعاني أسوأ انهيار دراماتيكي منذ عقود، وباتت كل الإجراءات المتخذة منه موضع شك وتذمّر، لا سيما مع إدخال مفاهيم ومصطلحات جديدة فاقمت من الأزمة وجعلت أموال المودعين في مهبّ الريح.

وفي هذا الإطار، اعتبر الباحث في الاقتصاد وخبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي في حديث مع موقع “لبنان الكبير”، أنّ الكلام اليوم عن الـ Bail-in والـ Haircut والـ Forced Convertibility أو ما يُعرف بـ “لولرة” أو “ليلرة” الودائع قبل الوصول إلى أي خطة يتم بموجبها إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومكونات السلطة النقدية هو كلام حق أريد فيه باطل، مشيراً إلى وجود فرق بين اتخاذ خطوات لإراحة القطاع المصرفي التي أصبحت ضرورية من أجل إعادة الهيكلية وبين تنظيم القطاع المصرفي. فما هي هذه الخطوات؟

إراحة القطاع المصرفي

يُشدد فحيلي على ضرورة وضع خطة واضحة وشفافة لإعادة هيكلية وجدولة الدين العام، لا سيما الجزء الأهم منه والمكوّن بالدولار، مشيراً إلى وجود إصدارات واستحقاقات عدة لسندات اليوروبوندز والتي تمتد حتى العام 2037، أصبحت جميعها مستحقة اليوم وفق المعايير الدولية نتيجة التعثّر غير المنظم (Disorderly Default) الذي حصل في آذار 2020، بعدما تخلّفت حكومة حسان دياب عن السداد، كما أنه فرض على المصارف تحمّل خسارة الـ 2037 عام 2020، مشيراً إلى أنّ إعادة هيكلة وجدولة الدين العام يريح المصارف من هذا العبء. هذا وقد تسبّب التعثّر غير المنظم بضغوط على جميع المصارف العاملة في لبنان نتيجة تراجع التصنيف الائتماني، على الرغم من أنّ بعض المصارف نجحت في تفريغ حمولتها من سندات اليوروبوندز قبل الأزمة، بحيث لا تحمل هذه السندات في محفظة توظيفاتها بالعملة الأجنبية. وبحسب فحيلي، صحيح أن قانون الكابيتول كونترول قد تأخر إقراره، لكنه يكتسب أهمية قصوى عبر إعفاء المصارف من ارتكابات الماضي القريب غير القانونية، معتبراً أنّ أهمية “إبراء الذمة” تأتي مع انطلاقة عمليات الدمج والاستحواذ وضخ رأسمال جديد واستقطاب مساهمين جدد من الخارج.

إعادة هيكلة القطاع المصرفي

تتطلب إعادة هيكلة وتنظيم القطاع المصرفي خطوات وإجراءات قد تكون صعبة ومكلفة في الوقت عينه، ويمكن وضعها تحت غطاء التقشف، لكنها ضرورية لإعادة الحياة إلى القطاع وترميم ما تصدّع من الثقة. وهنا يقول فحيلي: “من البديهي أنّ القطاع المصرفي الذي توسّع في ظل اقتصاد تعدّى حجمه الـ 50 مليار دولار وودائع تخطّت قيمتها الـ 170 مليار دولار، واستقرار سياسي وميزان مدفوعات مشجّع، سيكون من الصعب عليه الاستمرار بهذا الحجم بعد أن تقلصت كل هذه المؤشرات وكثرت السلبيات التي تصنف الاقتصاد اللبناني اليوم (بحيث تحوّل الاستقرار إلى اللااستقرار وأصبح وضع ميزان المدفوعات غير مشجّع). ولهذه الأسباب يجب أن يتناغم حجم القطاع المصرفي مع حجم الاقتصاد المحلي ومع حجم وطبيعة النشاط الاقتصادي لجهة الخدمات المصرفية الذي يوفّره هذا القطاع لعملائه اليوم، والذي سيتسبّب بصرف عدد كبير من الموظفين من الخدمة وتقليص عدد الفروع وعدد الخدمات والخروج من أسواق والعودة إلى أسواق Inferior Markets كان قد خرج منها في الماضي. كما أكّد على ضرورة التوقف عن حماية المصارف المتعثّرة وغير القادرة على إنقاذ ذاتها ووضع اليد عليها من السلطة النقدية، ومعالجة الموجودات الهالكة عن طريق إنشاء مصرف متخصص لهذا الهدف، لا سيما أنّ التدهور الاقتصادي المتسارع وما نتج عنه من إقفال مؤسسات وبطالة قد تسبّبا في تضخم حجم القروض المصرفية الهالكة والمتعثرة بطريقة لم يكن بالاستطاعة مواكبتها بدعم رأسمال المصرف لامتصاص هذه الخسارة.

الإصلاح أولاً

يقول فحيلي إنّ الـ Bail-in والـ Haircut والـ Forced Convertibility ستُصبح جميعها من أهم ركائز أي خطة إنقاذ وإصلاح للقطاع المصرفي، محذراً من أن تتجه السلطة إلى اقرار أي منهم قبل الشروع بالإصلاحات التمهيدية الضرورية، مشيراً إلى أنّ ما يجمع هذه الإجراءات الثلاثة هو حاجتها إلى قانون (أي تشريع من مجلس النواب)، استهدافها لودائع المكونة بالعملة الأجنبية ولكن بطرق مختلفة، وليس بالضرورة أن تكون سيئة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار حجم وطبيعة الأزمات الاقتصادية التي ضربت لبنان في السنتين الماضيتين، وما سبّبته من تدهور واختناق في العمل المصرفي، وضرورة أن تهدف إلى حماية المؤسسة المصرفية وليس المساهمين في المصرف. لهذا السبب، يجب أن يكون إقرارها في ظل وجود مصارف قادرة على الإفادة من هذا الدعم والنهوض لخدمة الاقتصاد الوطني وليس العكس.

اختلاف آلية التنفيذ

وعن آلية التنفيذ، يشير فحيلي إلى أنها تختلف من مفهوم إلى آخر، فالـ Haircut هو اقتطاع من أرصدة الحسابات المكونة بالعملة الأجنبية وفق آلية عادلة تظهر في قانون يحدد بموجبه:

– عتبة هذه الحسابات (أي أرصدة الحسابات التي يستهدفها الـ Haircut).

– طريقة الاقتطاع (من الفوائد التي تراكمت على الحساب أو من الأصل المتوفر بتاريخ الاقتطاع بغض النظر عن أصل مبلغ الوديعة والفوائد التي أفاد منها المودع).

– نسبة الاقتطاع، على أن يتم تطبيق القانون بشفافية من جميع المصارف العاملة في لبنان وبمواكبة سلطة نقدية مسؤولة ومتحررة من التلوّث السياسي.

وفي ما يتعلق بالـ Bail-in، فلديه تعقيدات وتحديات تختلف عن غيره ويتطلب تحويل جزء من المطلوبات على المصرف Liabilities إلى رأسمال Capital، وأصحاب الودائع إلى مالكين ومساهمين في المؤسسة المصرفية التي تحمل ودائعهم وهذا ليس بالأمر السهل. كذلك يتطلّب تقييماً عادلاً وشفّافاً للمصرف من أجل تحديد قيمة المساهمة / أو سعر السهم، وتحديد ما إذا كان من الضروري أن تكون أسهم جديدة إضافية أو من الأسهم الموجودة المتداولة. هذا فضلاً عن تشريع اللجوء إلى الـ Bail-in والذي يجب أن يسبقه عرض أسهم المصرف للتداول على سوق بورصة بيروت ويلزم المودع بشراء أسهم في المصرف الذي يحمل وديعته بتاريخ تنفيذ الـ Bail-in. ومن أجل التخفيف من معارضة هذا الإجراء، يشترط فحيلي ضرورة أن يسبقه تعميم وتقييم من السلطة النقدية (لجنة الرقابة على المصارف) لجميع المصارف التي صمدت في وجه الأزمة، لا سيما أنّ المودعين غير مؤهّلين لإجراء هذا التقييم، ومن واجب السلطة النقدية تقديم العون وبالحد الأدنى توفير التقييم التقني لجميع المودعين الذين يطالهم الـ Bail-in وفي الوقت عينه إعطاء المودع خيارات في حال أراد نقل رصيد وديعته من المطلوبات إلى رأسمال المصرف، بحيث يمكن أن يتحول رصيد الوديعة تقنياً من خلال شراء أسهم أو دين طويل الأمد من 5 إلى 7 سنوات تُمكن المصرف من احتسابه كجزء من رأسمال.

أما بالنسبة للـ Forced Convertibility، فهو الأسهل لجهة التطبيق ويتضمن تحدياً وحيداً يتمثل في تحديد سعر الصرف الذي سيعتمد لتحويل الودائع المكونة بالعملة الأجنبية إلى الليرة اللبنانية. ومن الأفضل، وفق فحيلي، ألا يستهدف هذا الإجراء جميع الودائع ويجب أن يأتي كجزء من حلّ متكامل يتضمّن الـ Bail-in وتحويل الودائع من ودائع تقليدية إلى ودائع استثمارية شبيهة بسندات إيداع قابلة للتداول أو حسم عند المصرف الذي يصدرها. كذلك تحويل الودائع إلى رأسمال عن طريق تحويل رصيد الوديعة إلى أداة استثمار، إذ يضمّن هذا التنوّع نجاح خطة الإنقاذ ويخفّف من الوجه التعسفي لهذا الإجراء، والأهم بأنه يعطي مساحة للمصرف من أجل أخذ المبادرة وإعفاء المودع من كل هذه الإجراءات وتسديد الوديعة كاملةً.

وختم فحيلي بالتأكيد على ضرورة إعادة ترتيب البيت الداخلي في مصرف لبنان، وأن تكون هذه الخطوة نقطة انطلاق نحو فصل صلاحيات لجنة الرقابة على المصارف وتحريرها من سلطة حاكم المصرف المركزي عليها، على أن ينطبق الأمر عينه على هيئة التحقيق الخاصة وهيئة مراقبة الأسواق المالية.

شارك المقال