عاصفة الدولار تهبّ مجدداً

هدى علاء الدين

عاود الدولار الارتفاع من جديد متجاوزاً عتبة الـ 23 ألف ليرة للدولار الواحد، بعد انخفاض ملحوظ رافق تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، تلاه استقرار نسبي في سعر الصرف في الآونة الأخيرة. لكنّ رياح الأزمات السياسية والاقتصادية تجري دائماً بما لا تشتهي سفن الدولار التي تتقاذفها وتيرته التصاعدية نحو الجنون من جديد.

حال الفوضى التي تعمّ لبنان وتأخذ أكثر من طابع ومنحى، تترافق اليوم مع توقّف قسري لعمل الحكومة، الأمر الذي يمنعها من تحقيق أي تقدم ملحوظ في الملفات المالية والمعيشية الشائكة.

وفي حديث له مع موقع “لبنان الكبير”، أرجع كبير الاقتصاديين في مجموعة “بنك بيبلوس” نسيب غبريل “جذور ارتفاع الدولار إلى التراجع الحاد في تدفّق رؤوس الأموال إلى لبنان وتوقفها لاحقاً بشكل كامل، مما أدى إلى ظهور سوق موازية لسعر صرفه بدءاً من أيلول 2019 وذلك للمرة الأولى منذ 25 عاماً”، مشيراً إلى أنّ “هذه الأزمة لم تتم معالجتها بالشكل الصحيح سواء عبر إقرار قانون الكابيتال كونترول أو إجراء الإصلاحات اللازمة، الأمر الذي فاقم من حدّتها بخاصة بعد تخلّف لبنان عن سداد ديونه من اليوروبوندز في آذار الـ 2021. فمنذ سنتين لم يُتخذ أي إجراء من أجل بدء استعادة الثقة وإعادة تدفّق رؤوس الأموال، في حين بقي لبنان 13 شهراً من دون حكومة في فراغ سياسي نتج عنه غياب اتخاذ أي قرار بإجراء الإصلاحات، الأمر الذي خلق جوّاً من الفراغ سمح للمضاربين بالتحكّم بسعر صرف الدولار في السوق صعوداً أو نزولاً، مستفيدين من هذا الفراغ الحكومي والجمود السياسي والمؤسساتي من أجل تحقيق أرباح سريعة”.

يقول غبريل: “صحيح أنّ التطوّرات السياسية هي عامل أساسي ولديها انعكاساتها السلبية على الدولار، لكن يجب ألا ننسى أنّ السوق الموازية هي غير شفافة وغير مراقبة ولا تخضع لأي قوانين أو تشريعات، بل للتقلبات على اختلاف أنواعها”، مشيراً على سبيل المثال إلى “تأزّم الأوضاع مع المملكة العربية السعودية ووقف الصادرات التي كانت مصدراً للعملة الأجنبية إلى لبنان، والمرحلة التي تمّ فيها تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي والتي شهدت تراجع الدولار إلى ما دون الـ 14 ألف ليرة”.

وحسب غبريل، “فإنّ جزءاً مما يحصل في أزمة الدولار مبني على التوقعات، وخير دليل على ذلك انخفاض سعر الصرف مجرّد حصول أملٍ ولو ضئيل لناحية الوضوح بالرؤية المستقبلية والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، لكننا اليوم عدنا من جديد إلى وضعية الشلل الحكومي، وتأزم الأوضاع السياسية والأحداث التي حصلت مؤخراً والتي أدّت إلى تراجع منسوب التفاؤل والأمل والصدقية وشكلت فرصة ثمينةً للمضاربين لتحريك سعر الصرف”.

أما الحلّ فيكمن في توحيد سعر الصرف فقط، وليس في كيفية تخفيضه في السوق السوداء، عبر وضع مصرف لبنان آليةً لتوحيده بالتعاون مع وزارة المال، وأن تكون ضمن الخطة الإصلاحية التي على الحكومة أن تُقدّمها لصندوق النقد الدولي. وهنا يستطرد غبريل: “على الرغم من أنّ الفريق الاقتصادي يقوم بتحضير هذه الخطة وهناك تواصل غير رسمي وتقني مع صندوق النقد، لكن الجوّ السياسي والشلل الحكومي الذي يمنع إجراء الإصلاحات هو الذي يؤثر في سعر الصرف في السوق الموازية ويسمح للمضاربين بالتحكم في سعره صعوداً”. وشدّد على أنّ “الحكومة لو نجحت في تقديم برنامج واضح للبنانيين فور تشكيلها يتضمّن إجراء الإصلاحات المطلوبة، وأعلنت عن تواريخ محدّدة لبدء المفاوضات مع صندوق النقد وأوضحت آلية توحيد سعر الصرف، لتجنّب لبنان الوقوع في هذا الفراغ والرماد السياسي الذي يسمح للمضاربين بالتحكم بسعر صرف الدولار، بخاصة أنّ هناك شحاً في العملة الأجنبية في السوق ويدركون تماماً وجود طلب عليها لاستيراد المشتقات النفطية كالبنزين والمازوت والغاز وغيرها من المواد”.

لا يعطي غبريل أرقاماً أو توقّعات بشأن المستوى الذي قد يصل إليه الدولار، لأنّ ذلك لا يخدم حل الأزمة بل المضاربين، مشيراً إلى أنّ هناك دائماً من يُهوّل في سعر صرف الدولار ليخلق حالةً من التنافس بينهم، سواء شهد ارتفاعاً فيسارعون إلى التكهّن بمساره التصاعدي وإلى أين سيصل، تماماً عندما ينخفض حيث يتنافسون على إعطاء سعر منخفض له، مؤكداً أن هذا ليس سوى ضجيج إعلامي، لأنه فعلياً ثمة مضاربون يتحكمون بسعره.

ويختم: “سعر صرف الدولار في السوق الموازية هو سعر اصطناعي غير مبني على العرض والطلب، بل مبني على المضاربة والجمود المؤسساتي. لذلك يجب إخراج المضاربين منه عبر توحيد أسعار الصرف المتعددة وإعادة ضخّ رؤوس الأموال إلى لبنان التي تؤدّي إلى إلغائه، لا سيما أنّ القطاع الخاص تحديداً يريد رؤيةً ووضوحاً، لكن الواقع اليوم أرجع السوق إلى حال من الضبابية التي كانت موجودةً قبل تشكيل الحكومة”، مذكراً أنه “عند ولادتها شهد سعر صرف الدولار انخفاضاً ملحوظاً إلى 13 ألف ليرة، الأمر الذي شكّل حال هلع لدى المضاربين وخوفاً من المزيد من الانخفاض. وهذا يدلّ على أنّ انخفاض سعر صرف الدولار يسبّب مشكلة رئيسة بالنسبة للبعض وليس لمصلحتهم الاستمرار به بهذه المنحى التنازلي”.

يبدو جلياً أنّ عاصفة الدولار عادت أدراجها بسبب غياب أي معطيات إيجابية أو إجراءات مالية أو اقتصادية سليمة، تُغذيها القرارات العشوائية لرفع الدعم تارة عن المحروقات وطوراً عن الأدوية، تزامناً مع عدم القدرة على لجم السوق السوداء التي تُساهم في حركة الدولار التصاعدية. وإلى أن تستكين هذه العاصفة من جديد، سيبقى لبنان ومواطنوه وقطاعاته وعملته الوطنية في مهبّ الانهيار.

شارك المقال