خسارة القطاع المصرفي: جنة المقترض وجهنم المودع

هدى علاء الدين

اعتبر الباحث في الاقتصاد وخبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن التحصّن وراء بدعة ضرورة احتساب الخسائر كشرط أساسي لانطلاق أي مشروع إنقاذي هو انتحار مؤلم وبطيء للوطن والمواطن، مشيراً إلى أن الفساد والإنفاق وغياب الحوكمة في أداء السلطة السياسية سبب ما عليه نحن اليوم من انهيار اقتصادي واجتماعي، ومؤكداً أن الإنقاذ يجب أن يبدأ من ضرورة إقرار إصلاحات بنيوية وتنفيذها من أجل تهذيب أداء الطبقة السياسية الحاكمة.

عنصران أساسيان

يقول فحيلي إنه من الخطأ اخضاع احتساب الخسائر للابتزاز والتجاذب السياسي، لافتاً إلى ضرورة التوقف عند عنصرين أساسيين لدى احتساب هذه الخسائر الناتجة من الأزمة الاقتصادية:

1- العنصر الأول: التداخل والتشابك بين موجودات Assets ومطلوبات Liabilities المودعين في المصارف العاملة في لبنان، القطاع المصرفي، المصرف المركزي والدولة اللبنانية. وقد تم بموجبه توظيف الودائع سواء بالليرة اللبنانية أو بالعملة الأجنبية في:

– تسليفات للقطاع الخاص (قروض شخصية وقروض تجارية) والقطاع العام (سندات خزينة بالليرة اللبنانية ويوروبوند).

– توظيفات لدى مصرف لبنان بالليرة وبالدولار.

– ودائع بالعملة الأجنبية لدى مصارف غير مقيمة (المصارف المراسلة).

– الخزانات الحديدية للمصرف.

2- العنصر الثاني: العامل الزمني Time Value of Money.

وأشار فحيلي إلى أنه ومع تفاقم حجم الفجوة بين الإيرادات والنفقات لصالح العجز في الموازنة العامة وارتفاع مستوى الدين العام سنة بعد سنة، ومع تقلص حجم انخراط المصارف مباشرة بتمويل الدين العام، لجأ مصرف لبنان إلى تقديم الإغراءات للمصارف لاستقطاب أكبر قدر ممكن من التوظيفات (الهندسة المالية) لتوفير السيولة المطلوبة وتغطية العجز عوضاً من فرض أمرٍ واقعٍ يُلزم السلطة السياسية اللجوء إلى الإصلاح كنهج مسؤول لتعزيز الإيرادات وترشيد الإنفاق، معتبراً أن هذا الدعم غير المشروط عزّز من لامسؤولية السلطة النقدية في إدارة الشأن العام ودفع باتجاه انفلاش القطاع العام على حساب القطاع الخاص، وهنا تكمن خطورة هذا الدعم من مصرف لبنان.

وعن خسارة القطاع المصرفي، يقول فحيلي إنها تُقاس بحجم الخسارة التي تنتج من التوظيفات المتعثرة والهالكة وهي موزعة بين:

– القطاع الخاص: أرخى الانهيار الاقتصادي بظلاله على قدرة المقترضين (أفراد ومؤسسات) على تسديد ديونهم التي أصبحت موجودات هالكة، وبات يتوجب على المصارف امتصاص هذه الخسارة من رأس المال وتكوين مؤونة مقابل هذه الخسارة المحتملة بعد احتساب قيمة الضمانات المتوافرة مقابل هذه التسهيلات. وهذا يعني أن خسارة المصارف هنا هي دون حجم تسليفاتها للقطاع الخاص. في المقلب الآخر، ما حصل من تسديد للديون في السنتين الماضيتين تم بأموال فقدت الكثير من قيمتها الشرائية، لتتحوّل هذه الأزمة الاقتصادية بسبب أداء المصارف والسلطة النقدية، إلى جنة المقترض وجهنم المودع.

– القطاع العام: تتابع الحكومة اليوم خدمة الدين العام المكون بالليرة اللبنانية، لكنها توقفت كلياً عن خدمة الدين المكون بالعملة الأجنبية منذ آذار 2020 وبطريقة غير منظمة وغير مسؤولة تسببت بأذى من الصعب توصيفه وتحديد حجمه وساهمت في تدهور علاقة المصارف العاملة في لبنان بالمصارف المراسلة، وفقدان الثقة بين المصارف والمودعين، وفرضت على المصارف في سنة 2020 تحمّل خسارة توظيفات تستحق عام 2037.

هذا إضافة إلى الضوابط المفروضة على توظيفات القطاع لدى مصرف لبنان التي يتم تسديدها بطريقة لا تتناغم مع مواصفات الإستثمار المنصوص عنه في التعاقد بين الطرفين.

دينٌ متعثر

وبحسب فحيلي، يختلف احتساب الخسائر بين القطاع العام والخاص لأن الأول يتضمن تسهيلات خالية من الضمانات. وهنا تأتي أهمية وضرورة اهتمام الحكومة بإقرار خطة الهيكلة وإعادة جدولة الدين العام ليبنى على هذه الخطة عملية احتساب خسارة المصارف، ولا سيما أن غيابها سيجعل من قيمة الخسائر مبالغ جداً فيها. كما أن منطق الربح والخسارة لا ينطبق على القطاع العام والحديث يقتصر على التعثر الظرفي وحظوظ التعافي والعودة إلى الانتظام في تسديد الدين العام.

ومن خلال ما ذُكر أعلاه، يستخلص فحيلي بأن خسائر القطاع المصرفي هي الدين المتعثر كلياً ومن دون ضمانات وأفق للمعالجة من خلال إعادة هيكلة وجدولة هذا الدين، معتبراً أن الشرط الأساسي لمعالجة خسارة المودعين هو معالجة موضوع خسائر المصارف التي تتطلب:

– المقاصة بين القروض الممنوحة مقابل ضمانات نقدية.

– تسييل العقارات موضوع الضمانات على القروض الهالكة ومن دون أي احتمال لتسديدها، وهذا يتطلب وقتاً قد يكون طويلاً لتفادي الخسائر التي قد تنتج من التسرع في تسييل الموجودات.

– هيكلة وإعادة جدولة القروض المتعثرة لكن إمكانية التسديد قد تتحسن مع المعالجة، وهذا يتطلب وقتاً إضافياً لتسديد الدين.

– الجزء الخارج عن إرادة المصارف في المعالجة هو الدين الممنوح للقطاع العام، وهو الجزء الأصغر لجهة حجمه لكنه الأكثر تأثيراً في صحة القطاع المصرفي وعافيته من خلال التصنيف الائتماني للبنان وتداعياته على علاقة المصارف بالمصارف المراسلة والعالم الخارجي. إذ يبقى كل ما هو مطلوب اليوم من السلطة الحاكمة هو خطة واضحة لهيكلة هذا الدين وإعادة جدولته بشكل يحظى بمباركة وموافقة صندوق النقد الدولي، خصوصاً أن إتمام وإقرار هذه الخطة هو مفتاح الحل الحقيقي لأنه يتيح للمصارف تنظيم حساباتها لجهة السيولة المتوافرة والمباشرة بوضع برنامجها لإعادة الودائع لأصحابها، علماً أنه من المستحيل الإعلان عن هذه الخطة من دون إقرار وتنفيذ إصلاحات بنيوية على صعيد المالية العامة للدولة (تحسين وتفعيل الإيرادات وترشيد الإنفاق).

الإصلاح ثم الإصلاح

يؤكّد فحيلي في الختام أن المودع هو من أكبر الخاسرين نتيجة هذه الأزمة بعد أن أصبح غير قادرٍ على الوصول إلى أمواله الموجودة في المصارف، فضلاً عن الضرر الذي انعكس على حياته بشكل عام. واعتبر أن رد فعل المصارف على التعثر غير المنظم في آذار 2020 لجهة توقفها الكامل عن تلبية حاجات المودعين كان مبالغاً فيه ولا سيما أن حجم اكتتاباتها في اليوروبوند كان دون الـ 9 في المئة من حجم الودائع آنذاك، وتوظيفاتها في القطاع الخاص كانت مدعومة بضمانات تتعدى قيمتها السوقية الـ 120 في المئة من القيمة الإجمالية للتسهيلات، وأيضا بمؤونة جاهزة لإمتصاص الخسارة المتوقعة. وأشار إلى أنه لم يعد سراً اليوم أن عدداً كبيراً من المصارف توقّف عن الاكتتاب بإصدارات سندات اليوروبوند قبل اندلاع الأزمة المالية، في حين أفرغت مصارف أخرى حمولتها من اليوروبوند عند ظهور أول مؤشر لهذه الأزمة.

ويبقى السؤال الأهم، بحسب فحيلي، لماذا توقفت جميع المصارف عن تلبية كل حاجات (وليس رغبات) المودعين نهائياً؟ مكرراً التأكيد أن الحديث عن ضرورة تحديد حجم الخسائر كمدخل أساسي لأي خطة إنقاذ تنتج من الحكومة هو هروب إلى الأمام وتهرب من المسؤولية، إذ يبقى الإصلاح ثم الإصلاح ثم الإصلاح هو المدخل الأساسي لأي خطة من أجل إنقاذ الاقتصاد اللبناني من الارتكابات المدمرة للطبقة السياسية، علماً أن لهذا الإصلاح تأثيرات كبيرة في احتساب حجم الخسارة، وارتدادات إيجابية على صورة لبنان أمام المجتمع الدولي.

شارك المقال