2021… شرارات جهنم الاقتصادية (1): لعنة الدولار

هدى علاء الدين

لم يسبق للبنان أن شهد منذ ولادته هذا الكم الهائل من الأزمات وهذا المستوى من الانحدار الذي عصف بركائزه الاقتصادية والمالية وأطاح ميزاته الاجتماعية والمعيشية ليجد نفسه وبُعيد ذكرى مئوية تأسيسه في دوامة لامتناهية من الأزمات المستعصية والمفتعلة (أحياناً كثيرة) في محاولة ماكرة من أجل تغيير هويته الاقتصادية، بحيث زادت حدة الخلافات السياسية والطائفية من تعقيدها وتفاقمها. فصول هذا العام مرّت ثقيلة على لبنان واللبنانيين، وأيامه الـ 365، لم تحمل في طياتها سوى شرارات ملتهبة لقصص مأساوية، نختصر أحداثها في سلسلة مقالات تُوثق أبرز شرارات جهنم الاقتصادية في أبشع انهيار متعمد وضع لبنان في جحيم اقتصادي ومالي هدّد كيانه وحمّل أجياله إرثاً ثقيلاً من الأعباء الموجعة. 

أزمة ثقة

لم تهدأ شرارات الدولار يوماً، فشهدت في الكثير من المحطات ارتفاعات جنونية بشكل منظم ومفتعل أحياناً جراء المضاربة المستفحلة وحُكم الصرافين في السوق السوداء للحصول على أرباح طائلة غير مشروعة، حتى أنه تم التلاعب بسعر صرفه واستخدامه كرسائل سياسية مباشرة. هذا فضلاً عن أزمة عرض وطلب طالت الدولار في السوق السوداء في ظل شحّ العملة الصعبة ورفع الدعم واستنزاف الاحتياطي، أزمة تعاميم مصرف لبنان وما خلفته من انعكاسات سلبية، أزمة طبع الليرة وزيادة قيمة الكتلة النقدية المتداول بها، أزمة نفسية جعلت اللبنانيين يتهافتون إلى بيع الدولار عند كل ارتفاع من أجل المنفعة المادية أو شراءه من أجل بيعه لاحقاً عند معاودة الارتفاع، أزمة المنصات والتطبيقات من دون أي مراقبة، ناهيك عن أزمة الثقة التي انعدمت بشكل تام بين كافة الأطراف من دون إغفال العوائق والاشتباكات السياسية التي وقفت سداً منيعاً في وجه أي حلحلة اقتصادية، آخرها الأزمة اللبنانية – الخليجية، والشلل الحكومي وعودة الاطراف السياسية إلى الصراع والجدال الكلامي الذي يمنع تحقيق أي تقدم ملموس على مستوى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وإجراء أي من الإصلاحات المطلوبة من أجل الإنقاذ. 

قفزات قياسية

وفي نظرة سريعة الى سعر الصرف الدولار الذي ارتفع للمرة الأولى في تموز 2019 مسجلاً آنذاك 1550 ليرة، يظهر بشكل واضح تسجيل الدولار قفزات قياسية بعدما ارتفع من 8500 ليرة مطلع العام 2021 إلى 28 ألفا قبل أيام قليلة من نهايته أي حوالي 20 ألف ليرة للدولار في عام واحد. فبالأرقام، تم التداول في سعر الصرف في أول أيام كانون الثاني الماضي بسعر راوح ما بين 8375 و 8425 ليرة، مع ارتفاع طفيف في شهر شباط وصل إلى حدود الـ 10 آلاف ليرة، وإلى حوالي الـ 13000 في كل من آذار ونيسان وأيار، ليتخذ بعدها الدولار منعطفا خطيرا متجاوزاً الـ 15 ألف ليرة في شهر حزيران بسبب التأخر في ولادة الحكومة حينها، مسجلاً في شهر تموز ارتفاعاً جديداً عند الـ 18 ألف ليرة و19 ألف ليرة في شهر آب، قبل أن يعاود الانخفاض إلى الـ 15 ألف ليرة في شهر أيلول تزامناً مع حصول لبنان على 1.139 مليار دولار من حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي. إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يدم هذا التراجع كثيراً، إذ شهد شهرا تشرين الأول والثاني ارتفاعاً صاروخياً تجاوز فيه الدولار عتبة العشرين ألف ليرة مسجلاً 23 ألف ليرة، ليعاود التحليق أكثر وأكثر في شهر كانون الأول ويلامس حاجز الـ 30 ألف ليرة. كل هذه التقلبات في سعر صرف الدولار، حصلت ولبنان غارق بأسعار مختلفة للعملة الصعبة مع استمرار الضبابية السياسية والاقتصادية وفشل مصرف لبنان في لجم سعره، بحيث شهدت الأسواق اللبنانية 6 أسعار مختلفة للصرف تمثلت في السعر الرسمي 1515 ليرة، سعر السحب من المصارف 3900 ليرة (أصبح مؤخراً 8000 ليرة)، سعر فتح الاعتمادات للمحروقات 8000 ليرة، سعر فتح الاعتمادات للدواء 13600 ليرة، سعر منصة صيرفة 24000 ليرة، والسعر في السوق السوداء 28000 ليرة. 

الهاجس الأكبر

شكّل سعر صرف الدولار خلال عام 2021، أكثر الهواجس المالية قلقاً لدى البنانيين من دون أي منازع، مغيراً بشكل جذري عادات اللبنانيين ونمط معيشتهم ومفرغاً جيوبهم من بحبوحة مادية، بحيث أصبح الاكتفاء بالقليل سمة معظم اللبنانيين ليسقطوا في دائرة الخطر الاجتماعي والغذائي. فالعملة الخضراء التي فُقدت من الأسواق وخُبئت في المنازل في بداية الأزمة، أفقدت الليرة اللبنانية لاحقاً أكثر من 90 بالمئة من قيمتها، بعد أن سلكت مساراً تصاعدياً من دون أي رادع لها مع غياب المعالجات الجدية والفعالة التي تخفف من وطأة هذا الارتفاع على أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية وما رافقها من تدهور في القدرة الشرائية وارتفاع معدل التضخم الذي وصل إلى 178 في المئة عام 2021 بينما كان يبلغ 4 في المئة عام 2018 أي بزيادة قدرها 174 في المئة، في حين سقط أكثر من 80 في المئة من اللبنانيين في براثن الفقر المتعدد الأبعاد. فالمرحلة الجديدة من الارتفاع المدوي هذا العام، كانت بلا شك الأخطر والأقسى من العام 2020، ولا سيما مع ملامسة سعر الصرف عتبة الـ 30 ألف ليرة، الأمر الذي أدّى إلى انفجار اجتماعي ومعيشي وتآكل رهيب في رواتب اللبنانيين بشكل متسارع ليصل الحد الأدنى للأجور اليوم إلى ما يقارب الـ 25 دولار شهرياً بعد أن كان 450 دولار على سعر 1515 ليرة قبل بداية الأزمة منذ عامين. إلا أنه في المقابل، وككل أزمة ينتج عنها رابح وخاسر، كان لهذا الارتفاع في سعر الصرف تداعيات إيجابية على فئة لا بأس بها من اللبنانيين الذين كدّسوا أموالاً طائلة محققين ثروات هائلة، وهم من أكثر المتضررين من انخفاض الدولار بعد أن جعلوا منها تجارةً رابحةً غير أخلاقية، لتدفع بذلك الليرة اللبنانية خلال العام 2021 ثمناً باهظاً جرّاء غياب الرقابة والمراقبة وتفلت الأسواق المالية من دون أي حسيب أو رقيب والسقوط في المستنقعات السياسية وغياب الحس الوطني القادر على انتشال لبنان من حالة الركود الاقتصادي ووضعه على سكة الإصلاحات، وتكون ضحية خاسرة في لعبة أبطالها المنظومة الحاكمة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي وتجار العملة حديثي النعمة، ضحية ينتظرها في الـ 2022 الكثير من التحديات المفصلية، فإما أن تكون أو لا تكون؟

صحيحٌ أن قصة الدولار هذه لا تُشبه غيرها من القصص المأساوية التي عصفت بلبنان في هذا العام الكارثي، إلاّ أنها كانت الأشد إيلاماً والأكثر فتكاً، فكانت لعنة الدولار بدايةً لآت أعظم سيتبع….

إقرأ أيضاً:
1- 2021… شرارات جهنم الاقتصادية (2): لعبة الدعم
2- 2021… شرارات جهنم الاقتصادية (3): خطيئة التعاميم

شارك المقال