2021… شرارات جهنم الاقتصادية (2): لعبة الدعم

هدى علاء الدين

أنهى العام 2021 مرحلةً طويلة من سياسة الدعم التي كان ينتهجها لبنان منذ عقود، ليدخل بذلك حقبة جديدة من الأسعار الهستيرية التي رافقت خطوة الرفع غير المدروسة عن السلع الأساسية كالمحروقات والأدوية والخبز، بعدما رضخ المصرف المركزي لواقع تراجع الاحتياطي الإلزامي وهدر الأموال لزوم الاستيراد التي شجعت على الاحتكار والتهريب وظهور السوق السوداء، وكلفته خسارة أكثر من نصف قيمة احتياطه بالدولار ليصل اليوم إلى 12.5 مليار دولار بعدما كان قبل بدء الأزمة منذ عامين 32 مليار دولار بسبب فشل المسؤولين السياسيين منذ أكثر من عام ونصف في الاتفاق على وضع خطة متكاملة تترافق مع رفعه التدريجي تُخفف من هول هذا القرار. فلبنان الذي يستهلك سنوياً نحو 120 مليون صفيحة بنزين و230 مليون صفيحة مازوت، بكلفة بلغت سنوياً 4 مليارات دولار، و740 مليون دولار لدعم الأدوية و135 مليون دولار لاستيراد القمح، كانت لعبة رفع الدعم وما رافقها من عمليات كرّ وفرّ بين المستوردين والمركزي واستمرار سياسة الهجوم والهجوم المضاد ورمي الكرات بينه وبين السلطة السياسية بمثابة “أم الأزمات” فيه، زاد من حدّة مآسيها الحلول الترقيعية التي كانت تؤخذ بالقطعة من دون أي مردود إيجابي، بل انعكست انفجاراً طال عصفه كل القطاعات من دون استثناء.

البنزين ألهب الجيوب

في زمن الـ 1500، كانت تُباع صفيحة البنزين بـسعر 39500 ليرة حيث كان يُؤمن مصرف لبنان 85 في المئة من القيمة الاجمالية لكلفة استيراد المحروقات، قبل أن تشهد ارتفاعاً دراماتيكياً ألهبت جيوب اللبنانيين وقلبت حياتهم رأساً على عقب بعد بدء الرفع التدريجي للدعم الذي بدأ فعلياً في حزيران عند الإعلان رسمياً عن تمويل الاستيراد وفق سعر 3900 ليرة للدولار بدلاً من السعر الرسمي، وكشف مصرف لبنان أنه سيقوم ببيع الدولار للمصارف التي تتقدم بفتح اعتمادات لاستيراد كافة أنواع المحروقات بعد استحصالها على موافقة مسبقة لهذه الاعتمادت على السعر الجديد، ليرتفع سعر صفيحة البنزين من 45000 ليرة إلى 70000 ليرة، والمازوت من 33 ألف ليرة إلى 54 ألف ليرة، وتبدأ معها رحلة معاناة اللبنانيين ودخول أزمة المحروقات مرحلة تحرير الأسعار بعد استنزاف الاحتياطي الإلزامي من الدولار لدى مصرف لبنان. وفي آب، عاودت أسعار المحروقات ارتفاعها بنسبة 75 في المئة، لتشهد بذلك ارتفاعاً بنحو ثلاثة أضعاف خلال شهرين، تزامناً مع إعلان المركزي نيته فتح اعتمادات لشراء المحروقات بالدولار على سعر الصرف في السوق الموازية والذي لامس حينها حوالي 20 ألف ليرة، قبل أن يتم الاتفاق على الاستيراد بسعر ثمانية آلاف ليرة للدولار حتى نهاية شهر أيلول، ليرتفع على إثرها سعر البنزين 98 أوكتان من 77500 إلى 133200 ليرة والبنزين 95 أوكتان من 79700 إلى 129000 ليرة (أي بزيادة نسبتها أكثر من 66 في المئة)، في حين ارتفع سعر قارورة الغاز من 58500 إلى 90400 ليرة (50 في المئة) والديزل أويل (المازوت) من 58500 إلى 101500 ليرة (73 في المئة). في أيلول، أعلنت وزارة الطاقة اللبنانية رفع أسعار البنزين بنحو 38 في المئة، ليصبح السعر الجديد لصفيحة بنزين 98 أوكتان 180000 ليرة ارتفاعاً من 9 دولار إلى 12.4 دولار، وسعر صفيجة بنزين 95 أوكتان إلى 175000 ليرة ارتفاعاً من 8.7 دولار إلى حوالي 12 دولار. وفي تشرين الأول، قفزت أسعار المحروقات بشكل جنوني فاقت الـ 25 في المئة تزامناً مع ارتفاع أسعار النفط عالمياً، إذ أصبح السعر الجديد لصفيحة بنزين 98 أوكتان 312700 ليرة وسعر صفيحة بنزين 95 أوكتان إلى 302700 ليرة، في حين وصل سعر صفيحة المازوت (الديزل) إلى 270700 ليرة. أما في الشهر الأخير من هذا العام، فقد وصل سعر صفيحة بنزين 95 أوكتان الى 325000 ليرة وسعر صفيحة بنزين 98 أوكتان الى 336400 ليرة، بينما تجاوز سعر صفيحة المازوت أكثر من 337000 ليرة، ليتراجع الطلب اليوم من 12 مليون ليتر يومياً إلى 7 ملايين، مع توقعات بوصوله إلى 5 ملايين ليتر بسبب ارتفاع سعره حوالي 300000 ألف ليرة في عامٍ واحدٍ.

الدواء أصبح داءً

على الرغم من تأكيد وزير الصحة السابق حمد حسن في حزيران 2021، أن لا رفع للدعم عن الدواء، إلا أن كل هذه التأكيدات والتطمينات سقطت في فخ الدولار واستنزاف احتياطي المركزي، لتشهد في الشهر عينه رفع الدعم كلياً عن 75 في المئة من الأدوية وإبقائه للأمراض المزمنة والمستعصية وحليب الأطفال واللقاحات والأمراض النفسية والعصبية مع نشر وزارة الصحة لوائح الأدوية المستثناة والمدعومة على أساس سعر صرف 12000 ليرة للدولار، على أن يقوم المستورد بشراء العملة الأجنبية من السوق السوداء، بعدما تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء حاجز الـ 23000 ليرة. وفي تموز، توالت عمليات إقفال الصيدليات وذلك ضمن إضراب مفتوح نفذه أصحاب الصيدليات ريثما تُصدر وزارة الصحة لوائح الأدوية وتصنيفها حسب الاتفاق مع المصرف المركزي. أما الأزمة الكبرى، فحلّت في تشرين الثاني، إذ ارتفعت أسعار أدوية الأمراض المزمنة ما بين 10 و12 ضعفاً ولامست في العديد من الاحيان الحد الأدنى للأجور، بعدما قررت الحكومة تقليص الدعم الذي كانت تؤمنه لاستيرادها، لتنخفض الفاتورة الشهرية للدواء من 130 مليون دولار إلى 35 مليون دولار، لكل من أدوية الامراض المستعصية والمزمنة والمستلزمات الطبية. 

الخبز لم يعد قوت الفقراء

قرارت رفع الدعم العشوائية والمشوّهة عن الخبز بدأت فصولها للمرة الأولى في شباط 2021، إذ رفع لبنان سعر ربطة الخبز الحجم الكبير من 2000 إلى 2500 ليرة كحد أقصى، أي بزيادة قدرها 20 في المئة، لأسباب أرجعتها وزارة الاقتصاد والتجارة حينها إلى الارتفاع المتواصل والحاد لسعر القمح في البورصة العالمية وارتفاع سعر صرف الدولار. وفي حزيران، أعلنت الوزارة رفع سعر ربطة الخبز للمرة الخامسة على التوالي، بذريعة توقف مصرف لبنان عن دعم مادة السكر، محددة سعر ربطة الخبز حجم كبيـر من المتجر إلى المستهلك بـ 3250 ليرة كحدٍ أقصى (على أن لا يقل وزنها عن 910 غرامات)، وسعر ربطة حجم وسط بـ 2250 ليرة كحدٍ أقصى (على أن لا يقل وزنها عن 395 غراماً)، في وقت تجاوز فيه الدولار عتبة الـ 15000 ليرة. أما في تموز، فقد ارتفع سعر ربطة الخبز ليُصبح 4250 ليرة من الفرن إلى المستهلك و4500 ليرة من المتجر إلى المستهلك. وفي آب، أعلن نقيب أصحاب الأفران أن سعر ربطة الخبز سيتراوح ما بين 6 و7 آلاف ليرة بعد رفع الدعم عن المحروقات وارتفاع سعر صفيحة المازوت، لتقوم وزارة الاقتصاد في تشرين الأول بخفض بسيط في وزن الربطة والإبقاء على سعر 9500 ليرة للربطة الكبيرة و7500 للربطة المتوسطة و5500 للربطة الصغيرة.

ولأن لا شيء مضمون في هذا البلد، فهل ستصدق الإشاعات التي تُبث هنا وهناك بأن الأفران ستتوقّف عن إنتاج الخبز مطلع العام 2022، ويتجاوز سعر ربطة الخبز الـ 30 ألف ليرة في حال رفع الدعم عن القمح، أي بفارق نحو 20 ألفاً عما هو سعرها اليوم، لتكون الضربة القاضية للفقير في قوته؟ 

السيناريو الكارثي.. لا دعم لا بطاقة

انتظر اللبنانيون أكثر من عام من أجل تنفيذ وعد إقرار البطاقة التمويلية قبل رفع الدعم، فتم هدر الاحتياطي والاستمرار بالدعم العشوائي الذي حرق ما تبقى من العملة الصعبة ولم يستفد منه المواطن اللبناني على مدى أشهر كثيرة بل على العكس تم اتخاذه حجة لدعم المهربين والمحتكرين على الرغم من مراسلات المركزي منذ آب 2020 بضرورة تجاوب الحكومة مع نداءاته لعدم وصول الاحتياطي إلى المستوى الإلزامي. فقد نشطت خلال العام 2021 السوق السوداء للحصول على المحروقات والأدوية وانتعش التهريب على كافة أنواعه، ليتحكم هذان العاملان بتفاصيل لعبة استمرار الدعم من دون اتخاذ أي إجراءات رادعة، ويدخل اللبنانيون في عين العاصفة بعد أن كرّست دولتهم كافة أنواع الاحتكار والتهريب وشرّعت حالة من الفوضى الأمنية وجعلتهم رهينة أصحاب محطات الوقود، فعاشوا لأسابيع طويلة حالة من التوتر والقلق تجلّت في طوابير من الذل على المحطات والأفران لساعات طويلة. أزمة نقص المحروقات التي تسبّبت بخسائر كبيرة في القطاعات الإنتاجية والاقتصادية، طالت بشكل مباشر قطاع الكهرباء وغرق لبنان في تشرين الأول في ظلام دامس بعد انهيار الشبكة وخروج محطتي دير عمار والزهراني لتوليد الكهرباء من الخدمة وتوقفهما كلياً عن العمل جراء نقص الوقود، مع استمرار تراجع قدرة المؤسسة على توفير التغذية في التيار الكهربائي، بحيث تجاوزت ساعات التقنين الـ 22 ساعة يومياً، في حين رفع أصحاب المولدات الخاصة تعرفتها لتصل إلى أكثر من مليون ليرة مقابل 5 أمبير. كما انعكس ارتفاع أسعار المحروقات بشكل مباشر على كل من أسعار النقل التي ارتفعت من 2000 ليرة إلى 25000 ضمن نطاق بيروت فقط، وعلى القدرة الشرائية للأسر بحيث أدّى كل ارتفاع بقيمة 0.25 دولار لليتر المحروقات إلى انخفاض قيمة الأجور الحقيقية للأسر بنسبة 5.4 في المئة.

مسلسل رفع الدعم، الذي لم يتزامن مع أي من الخطوات الناجعة من أجل إلغاء أثر التضخم الناتج عنه، لم يعطَ اللبنانيين ولا اقتصادهم أي فرصة لاستيعاب ما يحصل، فتوالت الصدمات الواحدة تلو الأخرى وأصابت الطبقة الفقيرة بالصميم جارفةً في طريقها أي أثر للطبقة الوسطى التي تحولت هي الأخرى إلى معدومة الفقر بسبب فقدان الأمن الغذائي والاجتماعي مقابل انفلاش معدّل التضخم ومؤشر الأسعار بشكل جنوني. حتى أن البطاقة التمويلية التي انهارت قدرتها الشرائية والتي وعد بها اللبنانيون منذ شباط 2020 لا تزال تخضع لعمليات بحث عن التمويل كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، في ظل رفض البنك الدولي القاطع لتمويلها على الرغم من إقرارها في مجلس النواب في كانون الأول الجاري لمساعدة 700 الف أسرة لبنانية. أما برنامج “أمان” المموّل من البنك أيضاً عبر قرض بقيمة 246 مليون دولار، فحتى الآن لم يحصل أي لبناني على أي دولار منه، على الرغم من تجاوز عدد المسجلين على منصة Impact المليون، أكثر من 60 في المئة منهم عاطلون عن العمل، بانتظار بدء الدفع أول آذار المقبل وهو تاريخ يثير الشبهات السياسية والانتخابية، فهل سيصمد اللبنانيون حتى ذلك الوقت وقد أصبح أكثر من 80 في المئة منهم تحت خط الفقر؟

تُرك اللبنانيون لمصير قاتم، ولم يكفهم رفع الدعم عن المحروقات والأدوية والخبز التي حرقت رواتبهم وأعصابهم وانعكست سلباً على عملهم وصحتهم، بل واجهوا قرارات وتعميمات مؤلمة اتخذها مصرف لبنان خلال أشهر هذا العام، وضعت فيها ودائعهم الدولارية في قلب الهيركات والاستنزاف. وللحديث عن هذه التعاميم تتمة…

شارك المقال