2021… شرارات جهنم الاقتصادية (الأخير): انهيار لبنان

هدى علاء الدين

خسر لبنان الرهان في عام كانت أيامه الـ 365 عنواناً للتعطيل السياسي والنكبات الاقتصادية والمالية، لتكتمل بذلك سلسلة التدهورات الحادة والانهيارات الشاملة، فختم العام 2021 شراراته الجهنمية في ظل رياح سياسية عاتية وحالة من الفوضى العارمة أرهقت الاقتصاد ومنعت الحكومة من إنجاز أي تقدم ملحوظ في الملفات المالية والمعيشية الشائكة. عشرات التقارير والدراسات الدولية والأممية عكست بشكل مؤلم الواقع الكارثي والمأساوي، موثقةً بالأرقام وبالدليل القاطع عاماً من الأزمات المستعصية التي رسمت صورة قاتمة للبنان لن يكون من السهل محوها على المدى القصير. فقد كشفت معطيات ومؤشرات وأرقام العام 2021 عن كساد متعمّد وزيادة في معدلات التضخم والفقر وسوء التغذية وتراجع الرعاية الصحية وانعدام شبكات الأمان وتلاشي الأمنين الغذائي والاجتماعي وارتفاع أسعار السلة الاستهلاكية وتدهور القدرة الشرائية، وارتفاع معدل الهجرة واستنزاف الرأس المال البشري مع مغادرة لبنان قرابة الـ 80 ألفاً في عام واحد. وفي حين نفد صبر المجتمع الدولي والمنظمات الأممية من المناشدات والتحذيرات، لم ينفد صبر السلطة السياسية من نهجها المدمر وكأنها أقسمت على الانهيار حتى الرمق الأخير.

تقارير الانهيار

لبنان يغرق نحو أسوأ 3 أزمات عالمية: صنف “البنك الدولي” الأزمة الاقتصادية والمالية ضمن أشد عشر أزمات وربما إحدى أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، مشيراً إلى أن التقاعس المستمر في تنفيذ السياسات الانقاذية وفي ظل غياب سلطة تنفيذية تقوم بوظائفها كاملة، يهدّد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية أصلاً والسلام الاجتماعي الهش، مع عدم وجود أي نقطة تحوّل واضحة تلوح في الأفق.

لبنان… انهيار القرن: وصفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الانهيار الاقتصادي الممنهج بـ “انهيار القرن”، مشيرة إلى انزلاق إلى التضخم المفرط بعد أن شهدت اتجاهات الأسعار ارتفاعات جنونية منذ عامين في ظل انهيار غير مسبوق في العملة الوطنية التي فقدت أكثر من 95 في المئة من قيمتها، إذ تعاني فيه الأسر والعائلات من ارتفاع كارثي في أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية بمعدلات تفوق بأضعاف قيمة الحد الأدنى للأجور التي تآكلت بشكل دراماتيكي، ولا سيما أن معظم اللبنانيين يحصلون على أجورهم بالليرة اللبنانية.

لبنان إلى الشريحة الدنيا من الدخل المتوسّط: دقّ “البنك الدولي” ناقوس الخطر في تقريره حول الآفاق الإقتصاديّة للبنان – نيسان 2021، مخفّضاً توقعاته السابقة للنمو الإقتصادي لعام 2020 من إنكماش بنسبة 19.2 في المئة إلى إنكماش بنسبة 20.3 في المئة، مرجحاً في المقابل تخفيض تصنيف لبنان من حيث الدخل من إقتصاد ذي دخل متوسط أعلى إلى الشريحة الدنيا من الدخل المتوسط.

لبنان… الانزلاق إلى الهاوية: وصف “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الانسان” أزمة الارتفاع الحاد في أسعار السلع والخدمات الأساسية بأنها إحدى أكبر الأزمات التي يعاني منها اللبنانيون، بعد أن قفزت أسعار نحو 17 سلعة أساسية بنسب وصلت إلى 350 في المئة. وأشار المرصد إلى أن أزمة القطاع الصحي هددت حياة مئات المرضى الذين أصبحوا غير قادرين على تأمين ما يلزمهم من الأدوية الرئيسية الشحيحة أصلاً، خاصة تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة فضلاً عن عدم توفر المستلزمات الطبية في المستشفيات الحكومية بشكل كاف.

لبنان دولة في طريقها للفشل، إن لم تكن فشلت بالفعل: اعتبر المبعوث الأممي أوليفييه دي شوتر، أن مسؤولي الحكومة اللبنانية ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرك العاجل أو العزم اللازم لتحمل مسؤولياتهم إزاء أزمة اقتصادية أدت إلى “إفقار شرس” للمواطنين، واصفاً حالة لبنان بالميئوس منها بسبب تقاعس الحكومة عن مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة بحالة بؤس شديد، ومتهماً السلطات اللبنانية بتدمير العملة الوطنية وإدخال البلاد في مأزق سياسي. كما شدد على أن الأزمة المصنّعة هي كارثة من صنع الإنسان، استغرق صنعها وقتاً طويلاً، وستحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل.

لبنان… سجل ضعيف في تطبيق الإصلاحات: اعتبرت وكالة التصنيف الدولية “موديز” أن وضع لبنان السيء قد تفاقم نتيجة إستنزاف إحتياطياته بالعملة الأجنبية مع إشتراط صندوق النقد الدولي تنفيذ عدة إصلاحات قبل الإفراج عن أي مساعدات مالية، محذرةً من أن سجل لبنان الضعيف في تطبيق الإصلاحات قد يعرّض جهود الحكومة في تغيير الوضع الإقتصادي للخطر، مشيرةً إلى أنها قد تُحسن تصنيف لبنان في حال تمّت معالجة مشكلة إستدامة الدين والعودة إلى النمو الإقتصادي وإستقرار الأسعار وتحقيق فوائض أوليّة متكرّرة.

لبنان: تفاؤل حَذِر مقابل تحديات رهيبة: شكّك “معهد التمويل الدولي” في إمكانية التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لانتشال الاقتصاد من أزمته الحالية، معتبراً أن الحكومة العتيدة قد تفشل في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية الأساسية لأنّ أكثر من نصف الوزراء يُدينون بمواقفهم لانتماءاتهم السياسية التي قد تمنع تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، متوقعاً انكماش الاقتصاد بنحو 8 في المئة عام 2021 مقارنة بـ 26 في المئة عام 2020.

الحكومة الجديدة لا توحي بالثقة: اعتبرت “بلومبرغ” في تقرير لها أن عودة نجيب ميقاتي إلى السلطة كرئيس للوزراء أو التركيبة المألوفة لحكومته الجديدة لا توحي فعلا بالثقة، مشيرة إلى أن القيادات السياسية في البلاد، خاصة حزب الله لم يوافق على تشكيل الحكومة إلا لأنّ خيار المزيد من المماطلة لم يعد متوفراً.

الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان… واقع أليم وآفاق مبهمة: كشفت “الإسكوا” عن ارتفاع نسبة الفقر من 28 في المئة عام 2019 إلى 55 في المئة عام 2020، لتصل إلى حدود الـ 75 في المئة من مجموع السكان قبل أشهر من نهاية العام 2021، مشيرة إلى أنه ومع الأخذ في الاعتبار أبعاداً أوسع من الدخل، كالصحة​ والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 في المئة.

البقاء على قيد الحياة من دون أساسيات العيش… تفاقم تأثيرات الأزمة اللبنانية في الأطفال: أظهر تقرير “اليونيسيف” تراجعاً دراماتيكياً في أسلوب عيش الأطفال اللبنانيين، مشيراً إلى أن أكثر من نصف الأسر تخطى طفل واحد لديها على الأقل وجبة طعام في شهر أيلول الماضي، في حين كان على 7 من أصل كل 10 أسر شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو عبر الاقتراض المباشر لشراء الطعام. كما كان للأزمة المستشرية تأثيراً خطيراً في صحة الأطفال، إذ أن 34 في المئة منهم لم يتلقوا الرعاية الصحية التي احتاجوا إليها، بينما عجزت أكثر من 45 في المئة من الأسر عن الحصول على مياه الشرب الكافية، في حين يعيش 8 من كل 10 أشخاص في فقر، و34 في المئة هم في فقر مدقع.

موجة الهجرة الثالثة: أشار “مرصد الأزمة” التابع للجامعة الأميركية في تقريره إلى أن لبنان دخل هذه الموجة بالفعل، إذ يشهد منذ أشهر ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الهجرة والساعين إليها، بعد الهجرة الكبرى الأولى أواخر القرن التاسع عشر حتى فترة الحرب العالمية الأولى (1865-1916)، مع 330 ألف مهاجر من جبل لبنان، والموجة الكبيرة الثانية التي جاءت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، إذ قُدرت أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي 990 ألف شخص.

حلقة الموت: أشارت وكالة “ستاندرد أند بورز” في تقريرها إلى وجوب تضمين أي برنامج في المستقبل لإعادة الهيكلة، الدين الحكومي بالعملة المحلية، لأن إعادة هيكلة الديون بالعملات الأجنبية وحدها لن تؤمن الاستقرار المالي، لكونها لا تشكل سوى 38 في المئة من الدين السيادي الإجمالي في نهاية عام 2020، مرجحة أن يتضرّر المودعون في المصارف اللبنانية مع امتصاصها كلفة إعادة هيكلة ديون البلاد. 

2022: شرارات جهنم الاقتصادية… تابع

استقبل لبنان العام 2022، مثقلاً بالتحديات والأحداث التي تتسارع وتيرة حدتها بين يوم وآخر في عام لن تكون تداعياته أخف وطأة من سابقه بل على العكس من ذلك، نظراً للاستحقاقات المفصلية التي ينتظرها، من انطلاق التفاوض مع صندوق النقد الدولي بناء على خطة التعافي الاقتصادي والمالي وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة وتوحيد سعر صرف الدولار وإعادة هيكلة المصارف والدين العام وصولاً إلى الاتنخابات النيابية ومن ثم الاستحقاق الرئاسي، وما بينها من ضرورة العمل على إعادة لبنان إلى موقعه العربي الطبيعي واسترجاع الثقة به وباقتصاده من أجل عودة تدفق السيولة والرأسمال الأجنبي إلى الاسواق المالية كركيزة أساسية من أجل النهوض الاقتصادي.

بداية هذا العام لا تُبشر بالخير أبداً مع استعار التجاذبات السياسية، التي كان أولى تداعياتها معاودة سعر صرف الدولار ارتفاعه مسجلاً 30000 ليرة، ويبقى التحدي الأكبر في نجاح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في كسر حاجز التعطيل والانعقاد مجدداً، علماً أن أكثر المتفائلين اليوم لا يعقد أي أمل لتغيير المشهد اللبناني قبيل إجراء الانتخابات النيابية ليُبنى على نتائجها مقتضاه، ليبقى بذلك الوضع المعيشي والمالي والاجتماعي للمواطن اللبناني رهينة الابتزاز السياسي، إذ يبدو واضحاً أن لبنان لم يستعدّ بعد لرحلة التعافي الاقتصادي بل سيكمل في هذا العام رحلة الانهيار مع أزمات جديدة تلوح في الأفق في ظل ترويكا تعطيلية تضرب بقبضة من حديد عنوانها الشلل الحكومي والصراع السياسي والفشل الاقتصادي.

شارك المقال