السلاح السياسي يكسر الإصلاح الاقتصادي

هدى علاء الدين

استشرت الأزمة الاقتصادية في لبنان بعد أن كشّرت عن أنيابها وأظهرت حقيقة ما أخفته لسنوات من نوايا غير صافية من أجل تغيير هوية لبنان السياسية، فكان الاقتصاد أول الأهداف الذي يفتح المجال أمام تحقيق هذه الغاية. على مرّ أكثر من عامين شهد لبنان محطات مفصلية وقرارات مؤلمة أثارت العديد من علامات الاستفهام، وكأن كل ما حصل وسيحصل كان أمراً مخططاً له عن سابق تصور وتصميم. صحيح أن لبنان في نظر البعض لم يكن يملك ذلك الاقتصاد القوي والمتين، لكنه على الأقل كان ولفترة طويلة في أمان بعيداً عن مرمى وسهام الانهيار الشامل. فلبنان الذي تعاقبت عليه الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، كان للسياسة دور أساسي في تجاوزها، أما اليوم فقد أصبحت عنواناً لاشتدادها من دون أي اكتراث لتداعياتها الهدامة لعقود كان فيها لبنان عامل جذب على الخريطة العربية والعالمية. 

قرار الانكسار

وفي حديث لموقع “لبنان الكبير”، اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور رازي الحاج، أن الأزمة النقدية التي بدأت في لبنان كان لها منحىً اقتصاديا يتمثل في النموذج الذي كان معتمداً ومنحىً آخر سياسيا عزز من الانهيار القائم اليوم، مشيراً إلى أن هذا النموذج الاقتصادي الداعم لليرة اللبنانية ساهم مع الوقت في جعل القدرة الشرائية للناس أعلى مما هي عليها في الحقيقة مقابل عجز في موازنة الدولة، فاقم من حدتها الواقع السياسي الذي ساد منذ الـ 2011 عندما بدأ لبنان يدخل في محاور سياسية إقليمية عسكرية وأصبح جزءاً من منظومة سياسية وعسكرية تنتمي إلى ما يُسمى بالدول الممانعة، الأمر الذي ساهم في تخفيف إيرادات هذا النموذج (الذي كان يعتمد على رصيد ميزان المدفوعات الإيجابي من أجل استمراره عبر إدخال العملة الصعبة التي كانت تفوق قيمة ما يخرج منها خارج الحدود، على الرغم من العجز الذي كان سائداً في الميزان التجاري). وبالتالي، عندما أصبح لبنان جزءاً من هذا المحور بدأت الخيارات الاستراتيجية السياسية الخاطئة، تحوّل رصيد ميزان المدفوعات من إيجابي إلى سلبي وصولاً إلى عام 2017 حين بدأت المعطيات تشير إلى عدم قدرة استمرار لبنان على ما هو عليه، فكان مؤتمر سيدر الذي طالب بإصلاحات هيكلية وبنيوية سواءَ في الإدارة العامة أو قطاع الكهرباء وغيرهما… وكذلك بدأت المؤشرات تدل على عبء الاستمرار في سياسة نقدية تدعم الليرة وكان الحديث عن سياسة صرف لا تتركه ثابتاً ولا تُحرره بالمطلق من أجل تخفيف هذا العبء على لبنان. الإصلاحات لم تنفذ بطبيعة الحال وأتت الانتخابات عام 2018 بأكثرية نيابية من أجل التعطيل السياسي، وانعكس هذا الجو على الحكومة التي شُكلت عام 2019 بعد فترة طويلة من الفراغ. وهنا يتساءل الحاج من اتخذ القرار بإعلان انكسار النموذج الاقتصادي؟، معتبراً أن هذا السؤال على أهميته لا يزال مبهماً، مشيراً إلى أنه في صباح اليوم الثاني لـ17 تشرين كان الاحتياطي الإلزامي في المصرف المركزي يبلغ 34 مليار دولار ولم يكن هناك أي شيء يدعو إلى إغلاق المصارف وتطبيق كابيتال كونترول غير قانوني ولاحقاً الإعلان عن عدم سداد ديون لبنان من اليوروبوندز. وحسب الحاج، فإن التاريخ سيظهر لاحقاً من ولصالح من تم اتخاذ هذا القرار، مؤكداً أن قرار انكسار النموذج الاقتصادي كان له بُعد سياسي إقليمياً.

الخاسر الأكبر

يقول الحاج، إن الخطأ الأساسي الذي تم ارتكابه بعد اندلاع الأزمة تجلّى في عدم معرفة كيفية الهبوط بأمان Soft Landing، مشبهاً وضع لبنان بالطائرة التي فقدت السيطرة على محركاتها، إذ أصبح هدف كافة المجموعات على اختلافها إزاحة الحمل عن ظهرها، لافتاً إلى أن المطلوب كان حينها أمران: الأول كان ضرورة إقرار قانون الكابيتال كونترول الذي يمنع تحويل الأموال وتهريبها إلى الخارج، والثاني تخفيف العجز في الميزان التجاري في المجالات التي تُعد غير أساسية تزامناً مع إطلاق عجلة الاقتصاد في القطاعات البنيوية، لكن الذي حصل كان عكس ذلك تماماً، إذ تم إغلاق البلد والمصارف وضرب الدورة الاقتصادية والناتج المحلي الإجمالي الذي هبط بشكل دراماتيكي من 60 مليارا إلى ما دون الـ 20 المليار دولار، ووضع عراقيل أمام كل من يحاول العمل لصالح لبنان. وقد أدى كل ذلك إلى فتح المجال أمام سرقة العصر في آخر عامين، فكل الفساد الذي كان على مدى الأعوام السابقة لم يصل إلى مستوى الإجرام اللاأخلاقي في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية، وذلك بسبب التركيز على الفجوة المالية فقط، وأصبحت الغاية الأساسية عدم تحمل الجهات المعنية أي جزء من الخسارة وتحميلها فقط للمواطن، الأمر الذي أدّى إلى إطالة عمر الأزمة مقابل تحريض المودعين على سحب أموالهم كي لا يخسروا قيمتها بالكامل تحت عنوان “الهيركات المقنع”، ليكون بذلك المواطن اللبناني قد تحمّل ثلاثة أنواع من الخسائر تتمثل في تحميله حوالي الـ 40 مليار دولار من الخسائر في الودائع، وتلاشي قدرته الشرائية بشكل كارثي، وتدني نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل. وهنا يستبعد الحاج أن يعود لبنان كما كان قبل 10 سنوات وربما أكثر، لافتاً إلى أن هذه الخسائر الثلاث تترافق مع تشويه كبير في الطبقة الاجتماعية في لبنان، وخطر جسيم على الطبقة الوسطى التي تُعد الضامن والضابط المحرك والموجه للاقتصاد والقضايا الاجتماعية وأساساً للمحاسبة والتغيير والحرية، مشيراً إلى أن هوية لبنان كانت ترتبط بشكل مباشر بوجود طبقة وسطى فاعلة وناشطة تستطيع القيام بمبادرات فردية خدمة لاقتصاده، وتم ضربها لصالح ليس تقويض الهوية الاقتصادية والليبرالية الحرة فقط إنما السياسية أيضاً ليصبح لبنان يشبه أكثر فأكثر شكلاً ومضموناً وفكراً وفلسفةً وثقافةً وممارسة دول الممانعة، ليتحول من كونه شعلة الحرية وحلم العرب إلى دولة لا تشبه صورته الحقيقية.

إصلاح سياسي

يؤكد الحاج أنه لا يوجد شيء اسمه إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي، لأنهما مترابطان بشكل وثيق، خصوصاً أن قرار الإصلاح الاقتصادي بحاجة اليوم إلى خيار واضح وصارم من قبل المواطنين اللبنانين من أجل دعم مساره، إذ يجب عليهم أن يختاروا أي نموذج يريدونه للبنان، ووضع الخلافات السياسية والحاسبات الصغيرة جانباً. فإما أن يكون هناك لبنان بلد الحريات المقدسة ومرتع المبادرات الفردية يتمتع بديموقراطية وليبرالية مطلقة أو أن يكون جزءاً من محور الممانعة هدفه فقط كيفية زرع الفتن والشرور والحروب في دول العالم، مشدداً على أن هذا الخيار يجب على اللبنانيين أن يختاروه بأنفسهم، خصوصاً مع تواجد فرصة حقيقية أمامهم للاختيار في أي لبنان يريدون العيش والبقاء.

شارك المقال