الأمم المتحدة تشرّح الأزمة المالية: قصّ كبير للودائع حتمي

المحرر الاقتصادي

في 19 كانون الأول، زار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لبنان. كان مصدوماً بلامبالاة المسؤولين اللبنانيين تجاه شعبهم الذي يعاني بشكل رهيب، كما قال. وكانت رسالته واحدة في كل اللقاءات التي أجراها وهي أنه “لا يحق” للمسؤولين السياسيين أن يكونوا منقسمين ويشلّوا عمل المؤسسات الدستورية، بينما يعاني شعبهم تداعيات أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وأن هناك مسؤولية كبيرة على القادة اللبنانيين للإلتقاء.

حوالي شهر مر على توبيخ غوتيريش المسؤولين اللبنانين فيما الازمة لا تزال تراوح مكانها. اذ ليس هناك من حل بعد لانعقاد جلسات مجلس الوزراء، والتشبث في المواقف يطيح اي اقتراحات للحل. في وقت لا تزال الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية تتفاقم. فسعر صرف الليرة مقابل الدولار لا يزال يشهد مزيدا من التدهور وسط فشل الحلول الموضعية في لجمه، فيما التضخم يواصل تحليقه وأعداد الفقراء في تكاثر كالفطر.

أول من أمس، أطلقت الأمم المتحدة تقريرها الرئيسي عن الاقتصاد العالمي حول “الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه لعام 2022″، حذرت فيه من أنه مع بقاء وباء كورونا بعيداً من نهايته، فإن توقعات النمو الاقتصادي العالمي لا تزال غير مؤكدة.

وخصص التقرير الذي يقع في 232 صفحة جانباً عن لبنان تحت عنوان فرعي “تشريح الأزمة المالية اللبنانية”. ينشر “لبنان الكبير” في الآتي الجزء المتعلق بلبنان:

“يواجه لبنان أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، مسجلاً انكماشاً للنمو الاقتصادي من 7.2 في المئة في 2019 الى 37.1 في المئة في 2020. وعلى الرغم من أن فقدان لبنان المهم للايرادات السياحية وانفجار مرفأ بيروت كانا المحركين الاساسي لهذا التراجع الكبير، لكن الأزمة المالية كانت سبباً مهماً.

في آذار 2020، أعلن رئيس الحكومة حسان دياب أن لبنان لن يكون قادراً على سداد استحقاق من سندات اليوروبوندز والبالغ 1.2 مليار دولار. وفي تشرين الثاني 2021، تم تشكيل حكومة جديدة بعد فراغ طويل، وهي في صدد أن تباشر التفاوض مع صندوق النقد الدولي حول اعادة هيكلة الدين والتخلف عن السداد.

على مدى حوالي عقدين، تلقى لبنان تدفقات هائلة بالعملات الاجنبية، وهي تتألف خصوصاً من تحويلات المغتربين اللبنانيين الذين تقدر أعدادهم بحوالي 15.4 مليون شخص. كما استفاد لبنان من سمعته كملاذ آمن للودائع من سوريا التي مزقتها الحرب. وكنات التدفقات تتجه الى المصارف المحلية، التي اشترت سندات اليوروبوندز التي اصدرتها الحكومة اللبنانية. وفي عام 2019، وفيما انخفض تدفق العملات الأجنبية بشكل كبير، واجهت الحكومة صعوبات في تمويل الدين وتثبيت سعر الصرف الرسمي. وأعلنت تدابير لتحسين السيولة، منها فرض رسوم على البنزين والتبغ وعلى تطبيقات الواتس آب. هذه الخطط أثارت تظاهرات شعبية عارمة بدأت بثورة 17 تشرين الأول. وكانت حالة عدم الاستقرار معطوفة على وضع اقتصادي يزداد سوءاً أدت الى تهافت المودعين الى المصارف لسحب ودائعهم. لكن المصارف التي تواجه نقصاً في السيولة، قررت تجميد سحب الودائع بالعملات الاجنبية في 17 تشرين الاول 2019 وراحت تحدد السحوبات بألف دولار شهرياً. ثم توقفت السحوبات بشكل كلي بعد أشهر من دون اي إجراء رسمي يقيدها.

وقد أدى تجميد الودائع بالعملات الى نشوء فوري لسوق سوداء للدولار الكاش. في البداية، أمّن مصرف لبنان أموالا بالعملات للمستوردين لتمويل العجز الهائل في الميزان التجاري. وهذا يعني أن سعر السوق السوداء دار حول 2000-2500 ليرة للدولار الواحد، فيما بقي سعر الصرف الرسمي على 1507.50 ليرة للدولار. لكن مع تضاؤل الاحتياطيات بالعملات الأجنبية، بدأت سلة السلع المدعومة على أساس سعر الصرف الرسمي تتراجع. وفي بداية العام 2021، كانت الادوية والسلع الغذائية الأساسية والتجهيزات الطبية ومستوردات المحروقات هي التي تمول على اساس سعر الصرف الرسمي وبمبالغ صغيرة، مما أدى الى حصول نقص كبير لدى الصيدليات اللبنانية ومحطات البنزين. وفي أيلول 2021، أعلن مصرف لبنان أنه لن يمول بعد اليوم هذه المستوردات، مما أدى الى زيادات جسيمة في الاسعار. وفي الوقت عينه، ارتفع سعر الصرف في السوق السوداء الى حوالي 21 ألف ليرة للدولار الواحد، مما يعني أن الليرة فقدت 93 في المئة من قيمتها وإن بقي تثبيت سعر الصرف. هذه التطورات تسببت في وصول التضخم الى مستويات خيالية الى 85 في المئة عام 2020 وتقديرات بوصوله إلى عتبة الـ128 في المئة في 2021.

هذا الوضع له عواقب عديدة على التفاوض حول اعادة هيكلة الدين. أولاً، ان الدين بالليرة بات أقل إثارة للقلق لأن التخلف عن السداد حدث من خلال التضخم، وحتى إن كان يتم اعادة سداد الدين. ثانيا، هناك حصة مهمة من سندات اليوروبوندز التي تشكل 94 في المئة من الدين الخارجي الاجمالي، تحملها مصارف محلية ومصرف لبنان (11 مليار دولار و5 مليارات دولار على التوالي من أصل 31.3 مليار دولار دين قائم). وهذا يعني أن قصّاً (اقتطاعاً) كبيراً للودائع بالعملات الاجنبية هو أمر حتمي. هناك سؤال معلق ما اذا كان حلاً مثل هذا سيكون مقبولاً به من قبل المودعين، علماً أن هذه الودائع مجمدة فعلياً منذ أكثر من سنتين، على الرغم من بعض الاجراءات لسحوبات صغيرة بالليرة وبأسعار غير ملائمة (مصرف لبنان، 2021).

وهناك عامل آخر وهو تمويل التدفقات الهائلة للعملات الأجنبية للعجوزات (جمع عجز) في الحساب الجاري منذ عقدين، وهو ما أدى الى المبالغة في تقويم الليرة وإضعاف تنافسية التصدير. وفي ظل الاستثمار الشحيح في البنى التحتية والقطاعات الانتاجية، ووسط غياب تأمين الكهرباء 24/24، فان استعادة ميزان الحساب الجاري ستكون مؤلمة، وتتطلب تصحيحاً كبيرا للأجور. هذه المشكلة حادة بشكل خاص لان القطاعات الاساسية للتصدير – السياحة وخدمات المعرفة – دُمّرت بحدة نتيجة وباء كورونا، على رأسها هجرة الادمغة نتيجة الازمة الاقتصادية.

ونتيجة للتركيبة السامة بين الأزمة المالية وكورونا وانفجار مرفأ بيروت، فإن معدل الفقر في لبنان وصل الى 42 في المئة في 2019 و82 في المئة في 2021. ومن بين الفقراء، هناك 40 في المئة يعانون من فقر متعدد الابعاد. وهناك أهمية قصوى لحماية هؤلاء من المزيد من تدهور الكرامة والرفاهية ويجب أن يؤخذ هذا الامر بجدية عند التفاوض مع المانحين الدوليين”.

كان لافتاً أن الارقام الواردة في التقرير قد فاقت باشواط ما كان ذكره صندوق النقد والبنك الدوليين. فهو قدّر انكماش النمو عام 2020 بـ37.1 في المئة فيما قدره صندوق النقد الدولي مثلاً بـ25 في المئة. وعن الانكماش عام 2021، فتقدر الامم المتحدة أن يكون بلغ 16.2 في المئة في حين قدره البنك الدولي منذ ايام بـ10.5 في المئة.

وفي وقت أحجم الصندوق والبنك الدوليان عن اعطاء توقعاتهم للبنان أقله للعامين المقبلين بسبب “ارتفاع حالة عدم اليقين”، توقعت الامم المتحدة أن يحقق لبنان نمواً ايجابياً عام 2022 نسبته 10.1 في المئة و6.7 في المئة في 2023. وعن التضخم، تتوقع الامم المتحدة أن يتراجع الى 64.9 في المئة في 2022، والى 8.5 في المئة في 2023.

هذه الارقام تستند بالتأكيد الى نجاح لبنان في التوصل الى اتفاق تمويلي مع صندوق النقد الدولي والذي سيكون انطلاقة تدفق الأموال من المانحين الدوليين.

لكن ماذا لو فشل لبنان في بلوغ هذه الاهداف؟ سنكون عندها أمام أرقام سلبية شديدة الحدة ولن ينقذ اللبنانيين إلا… معجزة إلهية.

عالمياً

حذر تقرير “الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه لعام 2022″، من أنه مع بقاء وباء كورونا بعيداً من نهايته، فإن توقعات النمو لا تزال غير مؤكدة.

ويقول التقرير إن الانتعاش الاقتصادي العالمي يواجه رياحاً معاكسة قوية في ظل موجات جديدة من اصابات كورونا واستمرار التحديات في سوق الشغل وفي سلة الإمدادات وتزايد ضغوط التضخم. وذكر التقرير انه بعد توسع بنسبة 5.5 في المئة عام 2021، يُتوقع أن ينمو الناتج العالمي بنسبة 4 في المئة فقط عام 2022 و3.5 في المئة عام 2023.

وابرز التقرير أن الانتعاش القوي في 2021 سجل اعلى معدل نمو منذ أكثر من اربعة عقود، مدفوعاً بإنفاق استهلاكي قوي وبعض الإقبال على الاستثمار، مع تجاوز التجارة في السلع لمستويات ما قبل الوباء.

ومع ذلك، تباطأ زخم النمو بشكل كبير بحلول نهاية العام 2021، خصوصا في الصين والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، حيث بدأت المحفزات النقدية والمالية تتراجع فيما برزت اضطرابات رئيسية في سلة الإمدادات. كما تشكل ضغوط التضخم المتزايدة في العديد من الاقتصادات مخاطر اضافية على الانتعاش.

وتوقعت الأمم المتحدة أن تبقى مستويات التوظيف اقل بكثير من مستويات ما قبل الجائحة خلال العامين المقبلين، وربما بعد ذلك. وشرحت أن نقص اليد العاملة في الاقتصادات المتقدمة يضيف الى تحديات سلة الإمداد وضغوط التضخم.

ولفتت الامم المتحدة في تقريرها الى ان محدودية الحيز المالي وقيود التمويل في العديد من البلدان النامية لا تزال تحد من قدرة الحكومات على النفقات المتصلة بالجائحة. كما تشكل الاوضاع المالية وحالة الديون تحدياً خاصاً بالنسبة الى العديد من البلدان النامية منخفضة الدخل.

وقال غوتيريش انه “في هذه الفترة الهشة وغير المتكافئة من الانتعاش العالمي، تدعو الحالة والتوقعات الاقتصادية في العالم عام 2022 إلى سياسات وتدابير مالية مستهدفة ومنسقة بشكل أفضل على الصعيدين الوطني والدولي”. أضاف: “حان الوقت الآن لسد فجوات عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها. إذا عملنا في تضامن – كأسرة بشرية واحدة – يمكننا أن نجعل عام 2022 عاماً حقيقيًا للتعافي للناس والاقتصادات على حٍد سواء”.

وأشار وكيل الأمين العام لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة ليو زينمين، إلى أنه “من دون نهج عالمي منسق ومستدام لاحتواء كوفيد 19 يشمل إتاحة اللقاحات للجميع، سيظل الوباء يشكل أكبر خطر على الانتعاش الشامل والمستدام للاقتصاد العالمي”.

وأكد رئيس فرع الرصد الاقتصادي العالمي والمؤلف الرئيسي للتقرير، حامد راشد، أن “السلطات النقدية في البلدان المتقدمة ستحتاج إلى ضبط نسق وتسلسل تقليص شراءات الأصول وخفض موازناتها للحفاظ على الاستقرار المالي، وعلى كلفة منخفضة لخدمة الدين العام، لضمان القدرة على تحمل أعباء الديون وتجنب الضبط المبكر لأوضاع المالية العامة”.

شارك المقال