البنك الدولي: قيادات لبنان دبّرت انهياره الاقتصادي

هدى علاء الدين

تكثر التوصيفات لأزمات لبنان التي بات التخلص منها أمراً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتغيير الطبقة السياسية الحاكمة التي ساهمت في تسريع عملية الانهيار. وهو أمر تؤُكد عليه مختلف التقارير الدولية التي تُجمع على أن هذا الانهيار هو نتيجة فعل متعمد لفاعل أصبح معروفاً. ولعلّ توصيف البنك الدولي في تقريره الأخير هو خير دليل ليس فقط على حالة التفكك السياسي والاقتصادي التي وصل إليها لبنان بل الأخلاقي واللاإنساني أيضاً. إذ أشار إلى أنّ كساد الاقتصاد اللبناني هو بتدبير قيادات النخبة في البلاد الذي سيُعرض الاستقرار والسلم الاجتماعي للخطر على المدى الطويل، بعد أن دمّرت بلداً كان يُنظر إليه سابقاً على أنه مركزاً للثراء والليبرالية في الشرق الأوسط قبل اندلاع الحرب الأهلية ما بين عامي 1975 و1990.

وقد اتهم التقرير الذي حمل عنوان (The Great Denial) “الإنكار الكبير”، الطبقة السياسية في لبنان بتدبير الانهيار الاقتصادي للبلاد، لافتاً إلى أن حجم ونطاق الكساد المتعمد يؤديان إلى تفكّك الركائز الأساسية للاقتصاد السياسي لفترة ما بعد الحرب الاهلية. وأظهر التقرير انخفاض الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 52 مليار دولار عام 2019 إلى 21.8 ملياراً عام 2021، الأمر الذي يمثل انكماشاً بنسبة تزيد عن 58 في المئة، وهو الانكماش الأعلى بين 193 دولة حول العالم، في حين أن التضخم المرتفع والذي يُقدر بمتوسط 145 في المئة في عام 2021، يحتل الآن المرتبة الثالثة عالمياً بعد فنزويلا والسودان.

البنك الذي كان قد صنف أزمة لبنان على أنها واحدة من أشد عشر أزمات عالمية، وربما أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينات القرن التاسع عشر، توقّع انخفاض الإيرادات الحكومية إلى النصف تقريباً من نسبة منخفضة أصلاً بلغت 13.1 في المئة عام 2020 لتصل إلى 6.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021، وهي ثالث أقل نسبة على مستوى العالم بعد الصومال واليمن.

كما أشار إلى أن تقديرات إجمالي الدين ستصل إلى 183 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021، مما يجعل لبنان يحتل المرتبة الرابعة في العالم بعد اليابان والسودان واليونان. واعتبر البنك أن التوقف المفاجئ في التدفقات الرأسمالية الداخلة والعجز في الحساب الجاري، استمرا في استنزاف إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي لمصرف لبنان على نحو مستمر. أما قطاع السياحة وعلى الرغم من تضرره وانخفاض عدد السائحين الوافدين بنسبة 80 في المئة عام 2020، إلا أنه شهد عام 2021 بعض التعافي إذ نما بنسبة 101.2 في المئة (على أساس سنوي) خلال الأشهر السبعة الأولى منه.

وحسب التقرير، فإن إفلاس نموذج التنمية الاقتصادية للبنان في فترة ما بعد الحرب والذي ازدهر على أساس تدفقات رأس المال الكبيرة والدعم الدولي مقابل وعود بالإصلاحات يعود إلى البيئة الجيوسياسية غير المستقرة معتبراً أن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قد تعثرت نتيجة الضغوط السياسية، الأمر الذي يجعل الحاجة لمعالجة الأزمة الرهيبة أكثر إلحاحاً، ولافتا إلى أن الفوضى المالية والنقدية إلى جانب تضخم متنامٍ لا تزال تتحكم بظروف الأزمة إذ تدهور سعر الصرف بشكل أكبر عام 2021، مع تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار بنسبة 219 في المئة على مدى الأشهر الـ11 من العام عينه. وإذ لفت إلى أنه وفي حين يُشبه سعر الصرف الفعلي الحقيقي ومكوناته بالنسبة للبنان (2019) إلى حد كبير سعر الصرف في المكسيك (1981)، وبدرجة أقل في الأوروغواي (2002)، إلا أن الانكماش الاقتصادي في حالة لبنان يبدو أكثر وضوحاً، وهو في الواقع أقرب إلى اليونان (2009)، إذ يعود السبب الرئيسي في ذلك إلى حجم الاختلالات الخارجية التي استوعبها لبنان لفترة طويلة.

وتعليقاً على ما ورد في التقرير، اعتبر المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه، أن الإنكار المتعمد في ظل الكساد المتعمد يُخلِّف أضراراً طويلة الأمد على الاقتصاد والمجتمع، مشيراً إلى أنه وبعد مرور أكثر من عامين على الأزمة المالية لم يُحدّد لبنان بعد مساراً يتّسم بالمصداقية للوصول إلى التعافي والاستقرار الاقتصادي والمالي، ناهيك عن الشروع في هذا المسار.

يأتي هذا التقرير تزامناً مع معاودة الحكومة جلساتها تمهيداً لإرسال موازنة العام 2022 إلى مجلس النواب من أجل إقرارها، ومع بدء المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي والتي ستستمر على مدى أسبوعين من أجل الاتفاق على برنامج التعافي الاقتصادي على أن يتضمن برنامج الاستدانة من الصندوق في المرحلة الأولى، في حال تم إنجازه، ما بين 3 و4 مليارات دولار حسب وزير الاقتصاد.

ومع وصول وزيري الطاقة السوري والأردني الى بيروت للتوقيع على اتفاقيتين، الأولى مع الأردن لتزويد الطاقة الكهربائية منها والثانية مع الأردن وسوريا لعبور الطاقة عبر سوريا إلى لبنان، وعلى وقع دعوة اتحادات ونقابات النقل البري إلى التحرك اليوم باتجاه السراي قبل التصعيد الأسبوع المقبل، تبقى جميع هذه التحديات مصيرية تحتاج الحكومة إلى تجاوزها بنجاح من أجل الشروع بالإصلاحات التي كانت بمثابة فرص ثمينة تمت إضاعتها في المؤتمرات الدولية ولا سيما خلال مؤتمر “سيدر”، إصلاحات لم يعد لبنان يمتلك الكثير من الوقت لتنفيذها بعد أن فشل مراراً وتكراراً في امتحانها العسير.

شارك المقال