14 شباط: الاغتيال الاقتصادي الحاقد

هدى علاء الدين

أبصرت الحريرية الاقتصادية النور بعد سنوات عجاف من عبث أمراء الحرب بوطنهم، فكان حضورها أقوى من أي محاولات إلغائية، إذ تمكن الرئيس الشهيد رفيق الحريري من إرساء ثوابت اقتصادية حوّلت الدمار إلى إعمار، فكانت مسيرته شاهدةً على إنجازات نوعية لا تزال الأكبر في تاريخ لبنان الحديث والأكثر ارتباطاً باسم رجل كان بحجم وطن، أعادت له نهضته وازدهاره ونموه وأدخلته مجدداً إلى الأسواق المالية من أبواب الثقة والطمأنينة التي صبغت نموذجه الاقتصادي. امتلك رفيق الحريري هيبة الرجال القادة التي صبغت شخصيته، فكان رجل دولة من الطراز الرفيع الذي إذا وعد وفى وإذا خطط نفذ وإذا حلم كان له ما أراد.

على مدى السنوات الثلاثين الماضية، خاض الرئيسان رفيق وسعد الحريري غمار التحدي الاقتصادي على وقع معارك سياسية طاحنة وقفت سداً منيعاً في وجه الحريرية الاقتصادية التي كانت تحتاج إلى ثنائيتي الاستقرار والأمن، اللتين افتقدهما لبنان بسبب التجاذبات والصراعات التي كانت وجهتها دوماً محاربة النموذج الاقتصادي من أجل الإقصاء السياسي. إلا أنه وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُحسب لرفيق وسعد الحريري أنهما فقط من استطاعا، بفضل علاقاتهما المتينة وقدرتهما الديبلوماسية ورؤيتهما الوطنية، الحصول على المساعدات المالية وضخ الاستثمارات العربية والأجنبية وإعادة بناء الثقة بلبنان متى تصدعت خدمةً لاقتصاده.

رجل الاقتصاد الأول

عكست المؤشرات الاقتصادية عشية استلام رفيق الحريري الحكم، النكبة المالية والنقدية التي كان يُعانيها لبنان، مع وصول سعر صرف الليرة اللبنانية إلى حوالي 2800 ليرة ودين عام توازي قيمته الـ 3 مليارات دولار، فضلاً عن انهيار بنيوي واجتماعي ومعيشي. وخلال سنوات حكمه الأربع الأولى التي بدأت في العام 1992، حقق الحريري انجازات أعادت الثقة بلبنان وأرجعت له هويته الاقتصادية عبر سلسلة متكاملة من السياسيات الانمائية والاجتماعية والإعمارية، نجح خلالها في رفع نسبة النمو إلى 16.04 في المئة، وتحسين الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 8 في المئة فضلاً عن انخفاض معدل التضخم السنوي إلى 5 في المئة تراجعاً من أكثر من 100 في المئة.

وبعد عامين من إقصائه، استلم الحريري الحكم مجدداً في العام 2002، بعبء مالي تجاوز الـ 6،5 مليارات وركود اقتصادي أنتجته حكومة الرئيس سليم الحص التي فاقمت الدين العام إلى 25 مليار دولار. إلا أن الاستسلام لم يكن يوماً من شيم رفيق الحريري الذي أصرّ على استكمال ما بناه وإصلاح ما تم إفساده عبر رزمة من المشاريع الإصلاحية. وعليه، اتجه إلى مؤتمر “باريس 1” عارضاً رؤية حكومته الاقتصادية بعنوان “الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة للحكومة اللبنانية”، لكن نجاح المؤتمر أزعج الداخل اللبناني الذي روّج لشائعات حول إمكان أن تؤدي نتائجه إلى ضرب الاستقرار وانهيار الليرة وإعادة النظر بسعر الصرف وخفض الدين العام من أموال اللبنانيين وودائعهم. وعلى خطى “باريس 1″، سار الحريري بمؤتمر “باريس 2″، مقدماً خطة استراتيجية للإصلاح البنيوي للإدارات والمؤسسات العامة، تعزيز إنتاجية القطاع العام وتحسين القدرة التنافسية، تحفيز النمو الاقتصادي وتحسين المناخ الاستثماري، ونجح في تأمين 10 مليارات دولار كمساعدات مالية، ليعود إلى لبنان ويواجه سلسلة من الصعوبات والعوائق عطلت نتائجه كافة.

نجح الرئيس الشهيد في ترك بصمة اقتصاديةً لن تزول، وأرسى خلال مسيرته أسساً متينة كان فيها الانفتاح على العالمين العربي والدولي من ركائز النهوض الاقتصادي والعمراني، فكان مهندس الإعمار ورجل الاقتصاد الأول الذي لن يتكرر.

أوكسيجين سعد الحريري

ورث الرئيس سعد الحريري في العام 2005 إرثاً مجيداً، وتحمّل وحيداً خلال 17 عاماً مسؤولية الحفاظ عليه في مسيرة شاقة مليئة بالألغام السياسية، سعى في الكثير من محطاتها بعزيمة وإصرار رجل الدولة الى بث الأمل وإعادة ثقة المجتمعين العربي والدولي بلبنان الذي كان قد بدأ بالترنح سياسياً واقتصادياً والابتعاد عن موقعه العربي الطبيعي. حاول الحريري جاهداً منذ تسلمه الأمانة، تذليل العواقب وتجاوز المطبات في سبيل المصلحة الوطنية العليا، متسلحاً بعلاقاته وقدرته على مساعدة لبنان اقتصادياً ومالياً كلما دعت الحاجة، لكنه في الأعوام الأخيرة عاش حقبة سياسية مشابهة لتلك التي عايشها والده، فكان عهدا الرئيسين ميشال عون وإميل لحود عهدا محاربة الحريرية بكل جوانبها بأسلوب ممنهج قائم على سياسات تعطيلية بهدف الإلغاء والإقصاء، فلم تصمد أي من حكوماته الثلاث أمام رياح المحاربة العلنية. وعلى الرغم من تجرّعه السمّ مرات ومرات لتجنيب البلاد خطر السقوط في براثن الحرب الأهلية والنعرات الطائفية، إلا أنه واجه باللحم الحي كل التحديات والمكائد التي نُصبت له بدءاً من 7 أيار 2008 وانتهاء بدفعه إلى الاعتذار عن التشكيل في العام 2021.

أنتج الفراغ الرئاسي العديد من التشوهات الاقتصادية وأحدث خللاً في المالية العامة ليتخذ النمو الاقتصادي منحى ضعيفاً لم يتجاوز الـ 1,5 في المئة بسبب فقدان عامل الثقة وسيطرة أجواء عدم الاستقرار السياسي، ما أدى إلى ارتفاع الدين العام 11.27 مليار دولار. عاد الحريري إلى الحكم ولكن لم يُسمح له أن يُحقق أي خرق إيجابي في الملفات الاقتصادية الشائكة التي أخذت مؤشراتها بالإنحدار منذرة بالأسوأ الآتي، فلم يكن أمامه في ظل سوداوية المشهد الداخلي سوى اللجوء إلى الدول المانحة عبر مؤتمر دولي من أجل استنهاض الوضع الاقتصادي والمالي وفتح ثقب في جدار التعطيل واستباق خطر الانهيار. فكان له مؤتمر “سيدر” في باريس في نيسان 2018، قدم خلاله خطة من أربع ركائز شملت برنامجاً للاستثمار في البنى التحتية، ضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي، التعهد بإصلاح القطاع العام، وتطوير استراتيجية لتنويع القطاعات الاقتصادية والخدمية، ليحصل لبنان بموجبها على منح وقروض ميسرة بقيمة 11.5 مليار دولار بهدف إعادة تأهيل البنية التحتية ودعم مشاريع التنمية وإجراء الإصلاحات اللازمة. وفور عودته إلى لبنان، أطلق ورشة لتنفيذ إصلاحات إدارية ومالية تهدف إلى وضع حد للفساد المستشري لا سيما في قطاع الكهرباء، لكنه اصطدم مجدداً بالخلافات السياسة التي أطاحت الجلسات الحكومية مطلقةً رصاصة الرحمة على أمل لبنان الوحيد.

حاول الرئيس سعد الحريري على مدى 17 عاماً ضخ الأوكسيجين في جسد الحريرية المثقل بالطعنات الغادرة، فأنجز مؤتمر “سيدر” الذي استطاع من خلاله توفير 11,5 مليار دولار متفوقاً بذلك على مؤتمرات باريس الثلاثة، إدراكاً منه أن محاولات قتلها ما هي إلا محاولات لقتل لبنان، الذي لا يزال حتى اليوم أضعف من أن يتحمل تداعيات اغتيال رفيق الحريري.

الاغتيال الاقتصادي

أثبتت الحريرية الاقتصادية أنها الرقم الأصعب نظراً الى دورها في التغييرات النوعية والجوهرية التي أحدثتها. وانطلاقاً من قاعدة “كل ناجح محارب”، تلقت منذ نشأتها وحتى اليوم العديد من الضربات إفساحاً في المجال لتغيير هوية لبنان القائمة على الانفتاح والاقتصاد الحر. وبسبب هذه المحاربة خسر لبنان سبع سنوات من العمل الحكومي نتيجة تأخير تشكيل كل الحكومات ذات الطابع الحريري بتكلفة فاقت الـ 17 مليار دولار. أولى هذه الضربات بدأت في العام 1998 مع إقصاء الرئيس رفيق الحريري من الحكم وتكليف الرئيس سليم الحص تشكيل حكومة من أجل محاربته وتحجيم دوره السياسي، تعرّض خلالها لموجة شرسة من الاستهداف الشخصي بهدف تشويه سمعته، وتم تعطيل تنفيذ كل الإصلاحات ورفض تطبيق قانون الكهرباء رقم 462 في العام 2005، اتُخذ القرار باغتيال مؤسس الحريرية الاقتصادية في تفجير حاقد كان الهدف منه التخلص أولاً من رفيق الحريري سياسياً تمهيداً لاستكمال اغتيال لبنان اقتصادياً، ليتحول من بلد مستقر وجاذب للرساميل والاستثمارات العربية والدولية إلى بلد منهار يتخبط بالعجز والفشل والفقر. ومع استلام سعد الحريري راية أبيه، ازدادت وطأة المحاربة وكأنه لم يكفهم الاغتيال الجسدي، فعمدوا إلى سلسلة من الاغتيالات المعنوية لإرث لم يسلم يوماً من الحقد والكيدية تجلت في إسقاط حكومته في العام 2011، ومن ثم استغلال أعداء الحريرية استقالته في تشرين الأول 2019، للانقلاب عليه عبر رفض ورقته الإصلاحية وتعطيل مفاعيل مؤتمر “سيدر”، لتكون آخر فصولها في تموز العام 2021، عندما اعتذر الحريري عن تشكيل حكومة اختصاصيين بعد 18 لقاء مع رئيس الجمهورية بسبب التعطيل والعرقلة والمناكفات السياسية على حساب الأوضاع المعيشية والاقتصادية، قبل أن يُعلن تعليق عمله السياسي.

مُنع الرئيس الشهيد رفيق الحريري من إجراء أي من الإصلاحات التي طالب بها مؤتمرا “باريس 1″ و”باريس 2” تماماً كما مُنع الرئيس سعد الحريري من تنفيذ بنود مؤتمر “سيدر”، علماً أن هذه البنود هي نفسها التي كانت ضمن برنامج رفيق الحريري الإصلاحي في عهد لحود، ولو أتيحت حينها الفرصة لتنفيذها لما وقع لبنان في المحظور. لم يعد خافياً أن كلّ من حارب الحريرية الاقتصادية عبر تعطيل تنفيذ الإصلاحات (هي نفسها التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي اليوم) وعرقلتها منذ 20 عاماً والعبث بإنجازاتها الوطنية هو من أوصل لبنان إلى هذا الدرك الأسفل من الانهيار، إذ ليس بمقدور المجرم الذي خطط عن سابق إصرار وتصميم ونفّذ محاولات إفشال مشاريع هذه الحريرية وخططها الإصلاحية أن يكون هو منقذ لبنان.

في 14 شباط 2005، حُرم لبنان من مهندس إعماره وضمانة اقتصاده بعدما أدرك القاتل ماذا يعني تغييب رفيق الحريري عن الساحة السياسية والاقتصادية. وفي 24 كانون الثاني 2022، علّق الرئيس سعد الحريري مشاركته في العمل السياسي اثر وصوله إلى طريق مسدود بعد 17 عاماً من العمل في حقل سياسي مليء بالألغام والأفخاخ الحاقدة… تاريخان وثقا بالجرم المشهود اغتيالاً جسدياً للحريري الأب وسلسلة اغتيالات معنوية للحريري الإبن أعادت لبنان إلى نقطة الصفر وقضت عمداً على اقتصاده بعدما تبين أن المطلوب لم يكن التخلص من رفيق الحريري وحسب إنما من وطن بناه حجراً وبشراً.

شارك المقال