أموال المودعين… كيف ومتى يخسرونها؟!

هدى علاء الدين

تتصدر أموال المودعين في المصارف قائمة التحديات المصيرية التي تحاول الحكومة اللبنانية معالجتها في ظل تسريبات تُنشر هنا وهناك تبثّ الخوف والرعب في نفوس أصحاب الودائع لا سيما تلك المكوّنة بالعملة الأجنبية أو الدولار. فعلى مدى عامين من الأزمة المالية والنقدية، تحمّل المودعون الجزء الأكبر من الأعباء المالية بانتظار خطة اقتصادية تُنصفهم وتحافظ على ما تبقى من أموالهم في المصارف اللبنانية، عبر سلسلة كاملة من الإصلاحات التي تؤسس لتوزيع عادل للخسائر.

اهتمامات صندوق النقد

وفي حديث له مع موقع “لبنان الكبير”، اعتبر خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي، أن الخطة التي تحضّرها الحكومة يجب تكون خطة إصلاحية بحتة، وإن كان تم تحضيرها فقط من أجل تحسين حظوظ الحكومة اللبنانية بتفاوض ناجح مع صندوق النقد الدولي، إذ يجب الأخذ بعين الاعتبار أن اهتمامات الصندوق تكمن في أمرين في غاية الأهمية. الاهتمام الأول يتجلى في عدم تكرار الأزمة الاقتصادية التي وقع فيها لبنان، فإذا كانت مسبّبات الأزمة الاقتصادية الحالية هي الفساد والهدر وغياب الحوكمة في إدارة الشأن العام، يعنيه أن تكون الخطة المقدمة من قبل الحكومة قادرة على منع إعادة حدوث هذه الأزمة عبر تنفيذ إصلاحات جذرية. أما الاهتمام الثاني فيأتي من واقع أنه في ظل حجم الأزمة الاقتصادية، لا يمكن أن ينجح التفاوض إلا عبر ديون ميسرة من قبل الصندوق للحكومة، الذي سيهتم حكماً بتحسين حظوظها من أجل إعادة دفعها عبر خطة تُعزز من إيراداتها وتُرشّد نفقاتها. وبسبب صعوبة تعزيز الإيرادات في هكذا أزمة من خلال الضرائب على أصحاب الدخل المحدود، يقول فحيلي أنه على الدولة التركيز على كيفية تخفيف النفقات وتحويلها إلى نفقات استثمارية تُحسّن من الناتج القومي وتدفع باتجاه النمو الاقتصادي، وهذا فقط ما يُعرف بـ”الخطة”، ومن دون ذلك لا يُمكن لها ن أن تحمل هذا المسمى.

خسارة المودع

أما عن الخطة التي تم تسريبها الى الوسائل الإعلامية، نقلاً عن وكالة “رويترز”، فيعتبر فحيلي أن التركيز على الودائع هو أمر خاطئ لأن الدخول في خطة الإنقاذ أو الإصلاح أو النمو يتطلب بالدرجة الأولى تحديد الأولويات خصوصاً أن الخطة التي يحتاجها لبنان عليها أن تنقذه من أزمته الاقتصادية لا أن تكون وجهتها المودعين فقط، لأن هناك قطاعات عديدة تحتاج إلى الإنقاذ أيضاً. وبالتالي، المطلوب أولاً حزام أمان اجتماعي بالحد الأدنى، والسير لاحقاً بحزمة من الإصلاحات التي تُعزّز الإيرادات. ومن هنا، فإن التركيز على المودعين كأولوية يُفقد مصداقية هذه التسريبات تماماً كما يُفقد مصداقية أي خطة تهتم فقط في كيفية التصرف بالإيداعات بالعملة الأجنبية. ولدى التحدث عن الخسائر، يُشير فحيلي إلى أن الخسائر ليست فقط للمودعين، وما يتم التداول به عن قيمة الـ69 مليار دولار، هي فجوة وليست خسائر. فالخسائر تُعرف بالنسبة لأي خطة إنقاذ على أنها خسائر المجتمع والاقتصاد اللبناني (من هي المؤسسات التي أقفلت؟ ما أهميتها للاقتصاد اللبناني؟ كيف كانت تُساهم وتنتج وتساعد في الإنتاج القومي؟ الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم، وأولئك الذين أصبحوا بسبب الضغوط التضخمية دون خط الفقر). هذه هي جميعها خسائر وليس أبداً حجم الخسائر التي تحدثت عنها الحكومة، ولا سيما أن تحديدها لا يجب أن يكون عبر عملية حسابية بحتة، بل من خلال معرفة من هو الخاسر الحقيقي كنقطة انطلاق لإعداد خطة إنقاذية. ومن هنا تأتي أهمية الخطة الاقتصادية الكاملة والمتكاملة التي من خلالها يُمكن إعادة النهضة الاقتصادية وتعزيز قدرة الاقتصاد على تحمّل هذه الفترة. على سبيل المثال، يقول فحيلي إن الحكومة اللبنانية دعمت الاستيراد لفترة عام ونصف بكلفة بلغت الـ 7 مليار دولار، وشهدت هذه الفترة تدهوراً بسعر صرف العملة اللبنانية تزامناً مع ضغوط تضخمية جعلت شراء السلع المستوردة أمراً باهظ الثمن، لكن في المقابل استطاعت الصناعة اللبنانية تعويض العديد من السلع المستوردة. لذا، كان يجب على الحكومة التركيز على هذه النهضة الصناعية أكثر من الاستيراد الذي يدعم فقط أصحاب الوكالات الحصرية، لافتاً إلى أن دعم الصناعة خصوصاً تلك التي استطاعت أن تحلّ مكان السلع المستوردة يؤدي إلى تأمين فرص عمل وتحسين الناتج القومي والتخفيف من الحاجة إلى العملة الأجنبية من أجل دفع فاتورة الاستيراد.

وحسب فحيلي، فإن الدولة غير قادرة على المحافظة على حجمها بسبب الازمة الاقتصادية التي نتج عنها إقفال العديد من المؤسسات وتسريح الكثير من الموظفين، وعلى الرغم من ذلك لم تستطع حتى الآن تقليص حجم القطاع العام وإغلاق صناديق الهدر، مؤكداً أنه لا يمكن للدولة اعتبار موظف القطاع الخاص أنه أقل أهمية من موظف القطاع العام. ففي ظل سنوات التقشف هذه، لا بد من التأكد أن الاقتصاد اللبناني قادر على تحمل أعبائها وعلى تأمين فرص عمل لكل من يسرَّح من وظيفته من بوابة دعم الصناعة اللبنانية وإيجاد فرص عمل داخل لبنان، عندها يتم النظر في حجم توزيع الخسائر (للاقتصاد اللبناني بشكل عام) ومعالجتها بطريقة منطقية ويُصبح لها معنى اقتصادي أوسع.

التشريع السياسي

وبالنسبة للودائع المكوّنة بالعملة الأجنبية وكيفية التصرف بها، يعتبر فحيلي أن عنونتها على أنها خسائر يعني افتراض عدم دفعها بالعملة التي تكونت بها، مشيراً إلى أن هذا القرار لا يمكن أن يصدر عن مصرف لبنان أو رئيس مجلس إدارة أي مصرف تجاري بل عن المجلس النيابي، أي أن السلطة السياسية عليها أن تُشرِّع دفع الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية، علماً أنه لدى اتخاذ هكذا قرار يتم التفكير حينها بخسارة المودع الذي لديه أرصدة بالعملة الأجنبية وهنا الخسارة تتعلق بشكل مباشر بسعر الصرف الذي سيعتمده التشريع من قبل المجلس النيابي. فإذا عكس سعر الصرف المتداول في السوق الحرة، هذا يعني عدم وجود أي خسارة، وإن وجدت ستكون بسبب الضغوط التضخمية التي يتعرض لها كل مواطن لبناني وليس المودع بالعملة الأجنبية حصراً. وهذا جداً مهم خصوصاً أن الطريقة التي يتم الحديث بها عن الخسائر وربطها عضوياً بالودائع بالعملة الأجنبية ليست صحيحة، فالخسائر تكون فعلاً خسائر في حال أصدر المجلس النيابي قراراً بدفع الودائع بالعملة الأجنبية بالليرة اللبنانية على سعر صرف بعيد جداً عن سعر الصرف الذي ينتج عن التداول الحرّ بين بيع وشراء العملة الأجنبية أو الليرة اللبنانية. ويعتقد فحيلي أن ما تم تسريبه من معلومات لا يمكن تسميته توزيع خسائر بقدر ما هو كيفية التعاطي مع الودائع بالعملة الأجنبية إذ أن جزءاً منها سيتم دفعها بالدولار “فريش” وهذا لا يخضع لمفهوم الخسائر، في حين أن جزءاً آخر سيتم دفعه بالليرة اللبنانية وسيتم التعاطي مع هذا الجزء بطرق مختلفة بين الودائع التي تحولت من الليرة إلى الدولار بتواريخ معينة، والودائع التي كانت تحصل على فوائد دائنة متميزة، والودائع الكبيرة عبر إفساح المجال بتحويلها إلى مساهمات في رأسمال المصرف، متسائلاً ما هي الأسس التي سيتم اعتمادها من أجل التمييز بين وديعة وأخرى؟ وهل من العدالة تحويل وديعة في مصرف مقتدر إلى مساهمة في رأسماله مع وديعة في مصرف آخر غير مقتدر؟

ووفقاً لفحيلي، فإن كل ما يتم التداول به لا يمكن أن يكون الحل الوحيد على حساب وجود خطة متكاملة تفي بغرض العدالة في توزيع الخسائر التي يجب أن تتضمن إعطاء خيارات عديدة لكيفية التصرف بالودائع، مشيراً إلى أن تحديد خسائر المودعين بالعملة الأجنبية وكيفية توزيع خسائرهم لا بد أن يسبقها إعادة هيكلة للقطاع المصرفي لأن كل المصارف التي ما زالت عاملة على الأراضي اللبنانية هي قادرة على البقاء والاستمرار في خدمة الاقتصاد اللبناني وغير ذلك يكون كل ما يجري هو تراكم للمزيد من الخسائر على عاتق المودع. ولا يرى فحيلي أي غرابة في إعلان إفلاس أي من المصارف خصوصاً أن لبنان مرّ في تجربة مماثلة خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1989 و2002، مشيراً إلى أنه لا يمكن الاستمرار في حماية المصارف المفلسة بكلفة لم يعد الاقتصاد اللبناني قادرا على تحملها، وإلى ضرورة وجود خطة لدى مصرف لبنان بكيفية التصرف مع هذه المصارف من أجل تخفيف وطأتها، رافضاً إعطاء أي مصداقية للمعلومات المسربة لأنها لا تستوفي شروط أي خطة نقدية مالية اقتصادية ناجحة بل هي فقط محصورة في كيفية التعاطي مع أصحاب الودائع المكوّنة بالعملة الاجنبية.

الثُغر الحكومية

وعن بيان صندوق النقد الدولي الذي أشار إلى ضرورة توزيع عادل للخسائر، لا يستغرب فحيلي مثل هذا البيان الذي عكس بوضوح غياب الخطة الناجعة من قبل الحكومة اللبنانية لإنقاذ الاقتصاد والمواطن اللبناني، مع وجود ثغر كثيرة وعدم جاهزية فريق التفاوض اللبناني، إذ يُفضل الصندوق أن تتوافر لدى الفريق المفاوض في الدولة المنكوبة خطة إنقاذ واضحة يقوم بعدها بدعم توجهاتها خصوصاً إذا كانت على قدر توقعاته. وهنا يشير فحيلي إلى أن تحفظات صندوق النقد الدولي بالنسبة لمسار التفاوض مع الحكومة لها علاقة بالتوقيت ولا سيما أن لبنان مقبل على استحقاق دستوري ألا وهو الانتخابات النيابية والتي يتوقع منها أن تُغير من تكوين المجلس النيابي الجديد بحيث ستفقد بعض القوى السياسية جزءاً لا يُستهان من قوتها وحضورها على الساحة اللبنانية. وبما أن الحكم في لبنان ليس في استمرارية دائمة ولا يوجد تناغم بين مكونات الحكومة، وبدورها السلطة التنفيذية غير قادرة على الالتزام لأنها لا تحكم حالياً بسبب سيطرة حزب الله على الوضع السياسي، سيكون هناك مماطلة لجهة انتاج أي خطة أو مفاوضات ناجحة مع صندوق النقد إلى ما بعد الانتخابات النيابية وهذا ما سيزيد من آلام المواطن اللبناني، إلا إذا كان هناك خطة تواكب هذه المرحلة من الانتظار والترقب من قبل الصندوق، يرافقها دعم من قبل البنك الدولي للتخفيف من معاناة من هم دون خط الفقر بشكل خاص.

إعادة الهيكلة

وعن مفهوم الخطة العادلة لجهة التوازن بين الأطراف المتعددة في تحمّل الخسائر، يقول فحيلي إنه من الصعب تفسير كلمة “عدالة” في ظل هذه الظروف الاقتصادية التي فرضت على لبنان من قبل سلطة سياسية فاسدة هدرت المال العام وتصرفت بلا مسؤولية. ولدى الحديث عن الدولة اللبنانية، يجزم فحيلي بأنه لا يمكن الفصل بين الدولة ككيان والأطراف السياسية التي كانت تُدير هذه الدولة. كذلك، لا يمكن الفصل بين حاكم المصرف ونوابه وبين المصرف المركزي، إلا أنه بالنسبة للمصارف يُمكن الفصل بين مكوناتها إذ لا يوجد أي مشكلة في محاسبة بعض المصرفيين لأنهم هم أصحاب القرار، مؤكداً على ضرورة استمرار القطاع المصرفي لأن التهجم اليوم عليه ودفعه نحو الإفلاس لا يُفيد أحداً ولا سيما أن إفلاس أي مصرف سيجبره على التصفية الذاتية وهذه العملية قد تأخذ سنوات كي يستطيع المودع استرداد أمواله لأن ذلك يتطلب تسييل موجودات المصرف أولاً. وحسب فحيلي، هناك توظيفات لمصرف لبنان لدى الحكومة اللبنانية لديها استحقاقات لسنوات عديدة (سندات اليوروبوندز تستحق عام 2037، لكنها اعتبرت خسائر عامي 2020 و2021)، وهناك توظيفات للمصارف لدى مصرف لبنان لديها استحقاقات تمتد لـ 7 أو 10 سنوات، وهناك العديد من المصارف التي ليس لديها أي اكتتاب يوروبوند، وبالتالي لماذا يجب معاملته كالمصارف التي بحوزتها العديد من الاكتتابات. ولهذا السبب، فإن الخطة الوحيدة التي يمكن أن تكون جيدة ومتناغمة مع المنطق الاقتصادي وتؤسس للعدالة هي تلك التي تبدأ مع السلطة السياسية عبر إعادة هيكلة وجدولة الدين العام وتنظيمه (سواء الدين المكوّن بالعملة الأجنبية أو الدين المكوّن بالعملة الوطنية). على سبيل المثال، الديون المستحقة عام 2025 والتي لا يمكن سدادها، فليتم التفاوض على إعادة هيكلتها بالنسبة للفائدة واستحقاقها ولأصل هذا الدين. وهكذا دواليك بالنسبة للديون التي تستحق على المدى الطويل انطلاقاً من أن عملية تنظيمها يريح القطاع المصرفي خصوصاً المصارف المتمكنة التي ستستطيع سداد الودائع للمودعين الذين ليس من مصلحتهم إبقاء أموالهم في المنازل بل يحتاجون إلى القطاع المصرفي من أجل تيسير حياتهم. وختم فحيلي: “لا يمكن الاستغناء أبداً عن هذا القطاع، لذا لا بدّ من إعادة هيكلة الدين من أجل ترميم الثقة المتصدعة بين المصارف والمودعين”.

شارك المقال