طوابير لبنان… أزمة أخلاق

هدى علاء الدين

في مشهد بات مألوفاً في لبنان، عادت طوابير الذل أمام محطات المحروقات لتحجز مكانها من جديد في صدارة يوميات المواطن اللبناني. القصة لم تنته هنا، بل تزامنت مع سحب التجار العديد من بضائعهم طمعاً في بيعها لاحقاً بأسعار مرتفعة من أجل تحقيق مكاسب لم يشبع أصحابها بعد. وفي وقت كان يعتقد فيه الكثيرون أن الأزمات ناجمة فقط عن سوء إدارة وفساد مستشرٍ أو جراء صراعات سياسية لطبقة حاكمة، إلا أنها أصبحت بالدرجة الأولى نتيجة أزمة أخلاقية طغت على كل المسببات وتجاوزت كل الخطوط الحمر في ظل غياب واضح للرقابة والمحاسبة، أبطالها المحتكرون والتجار والمنتفعون ومن يقف وراءهم. فالمسألة اليوم لا تقتصر على منظومة سياسية مقصرة في واجباتها ومسؤولياتها وحسب، إنما على منظومة أخلاقية فاسدة تأخذ من عدم محاربة الفساد والسرقة والنصب غطاءً لكل أعمالها.

استغلال الأزمات الخارجية وإن كانت لا تؤثر بشكل كارثي على الوضع الداخلي اللبناني، أصبح مهنة يُمارسها أصحاب المنفعة الذين يجدون في ارتفاع النفط والقمح وغيرها من السلع الأساسية عالمياً سبباً للافادة وخلق بلبلة لا مبرّر لها في الأسواق غير المستقرة أصلاً، بحيث شهدت وبشكل مفاجئ إقفال العديد من محطات الوقود وامتناع شركات استيراد البنزين عن تسليمه لأهداف باتت مفضوحة. فعلى مدى أسبوعين، عاش اللبنانيون تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية بكثير من المبالغة وكأنها حرب تجري على أراضي بلدهم، لم تتوقف خلالهما التصريحات التي لا تُشيع سوى الفوضى والذعر، علماً أنها تُخفي في طياتها مقدمة مستترة لاشتعال الأسعار لتكون بذلك طعماً يبتلعه اللبنانيون لما هو أسوأ قادم.

وتعليقاً على ما شهده لبنان، اعتبر الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن “لبنان يمرّ في الوقت الراهن بأزمة لها ثلاثة أسباب رئيسة تتمثل في التالي:

1- انعدام الرقابة وانحلال الدولة، وبالتالي فإن ما يقوم به الوزراء أو المدراء العامون من جولات تلفزيونية لكسر الاحتكار ومنعه ما هو إلا مجرّد جولات إعلامية لا يلمس المواطن أياً من نتائجها على الأرض.

2- جشع التجار وأصحاب المحطات والسوبر ماركات، لأنهم يعتبرون ما يحصل فرصة من أجل تحقيق أرباح مادية في ظل حالة عدم الاستقرار. على سبيل المثال، يكفي أن يمتنع أي صاحب محطة عن توزيع البنزين من نهار الجمعة إلى الإثنين بانتظار إصدار التعرفة الجديدة. فإذا كان لديه فرضاً 1000 تنكة ويحصل على ربح بمقدار 20 ألف ليرة للتنكة الواحدة (فرق السعر بين اليومين)، هذا يعني أنه سيحقق ربحاً بمقدار 20 مليون ليرة. في المقابل، ينتظر التجار أيضاً ارتفاع الأسعار خاصة وأنهم جميعاً قاموا بتخزين العديد من السلع تداركاً أو استباقاً لرفع الدولار الجمركي حتى لو أن هناك العديد منها لا يشملها. وانطلاقاً من هنا، فإن المخازن والمستودعات بمعظمها مليئة بكل أنواع السلع والبضائع منذ أشهر.

3- مسؤولية المواطن تجاه ما يحصل، إذ يتوجب عليه عدم الإنجرار إلى ما يصبو إليه التجار وعدم المسارعة إلى شراء ما لا يحتاجه من أجل تخزينه فقط”.

ويُضاف إلى هذه الأسباب، بحسب شمس الدين، “تصرف المواطن وكأن لبنان على أبواب حرب عالمية ومجاعة قادمة، إلا أن الوضع في الحقيقة ليس كذلك. صحيحٌ أن هناك أزمة عسكرية وسياسية كبيرة على مستوى العالم، لكن لن يكون هناك حرب عالمية ستنقطع بموجبها السلع الأساسية من الأسواق”، مشيراً إلى أن ذلك لن يمنع من ارتفاع أسعارها. حتى القمح الذي يُعد سلعة استراتيجية ويتم استيرادها من أوكرانيا (تم استيراد السنة الماضية 500 ألف طن أي ما يوازي 60 في المئة من احتياجات لبنان)، فهناك مخزون يكفي حوالي شهر ونصف الشهر وبواخر تكفي لمدة شهرين ونصف الشهر أي مجموع أربعة أشهر، وهذا وقت كاف للحكومة من أجل البحث عن مصادر أخرى كالهند وأستراليا وكندا وغيرها. ولا ينكر شمس الدين وجود أزمة، “لكن اعتماد أسلوب التهويل وتضخيم حجم الأزمة هو من أجل استمرار السرقة وزيادة الأرباح غير المشروعة فقط”.

لا يُخفى على أحد أن اللبنانيين باتوا أسرى فلتان المحتكرين وجشع التجار في ظل غياب أي آلية جدية تلجمه، فمناقشة الأمور المعيشية على طاولة الاجتماعات في بعبدا حصراً بعيداً من إجراءات صارمة والاكتفاء بالأقوال بعيداً عن الأفعال، لن تُغيّر من قوانين اللعبة الاحتكارية بل تُكرّس مبدأ تحقيق المكاسب على حساب المواطن. حتى الآن، لم تنفع سياسة الشمع الأحمر وتسطير المحاضر وتوجيه الإنذارات، فلبنان بحاجة اليوم إلى من يمتلك أخلاق الأزمة لمحاربة من لديه أزمة الأخلاق.

شارك المقال