لبنان… عصفورية سياسية ودولار مجنون

هدى علاء الدين

يدور لبنان في حلقة مليئة بالمخاوف والمخاطر ومفرغة من الحلول والاصلاح في أزمة متشعبة أدت إلى انهيار اقتصادي واجتماعي، مقابل انتعاش الصراع السياسي والانتخابي. ووسط أجواء مشحونة وعلى وقع استحقاقات نارية، برزت ألغام “الميغاسنتر” وعودة قنابل الدولار الدخانية التي ألهبت الأسواق من جديد، ليدخل معها لبنان مرحلة جديدة من الفوضى الهستيرية المفتعلة.

غياب القرار السياسي

وعن هذه المرحلة، يرى الباحث السياسي والاقتصادي شادي نشابة، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن البلد “بات عصفورية سياسية تُنتهج خلالها سياسة الاستعصاء السياسي من دون وجود أي حلول فعلية”، مشيراً إلى أن “لبنان تأخر كثيراً في اتخاذ إجراءات كانت ضرورية منذ العام 2019، لو تمت حينها لكانت طريقة الخروج من هذا الانهيار أسهل بكثير من الوقت الحالي”. ويؤكد أنه “كلما تأخر الوقت زاد الأمر صعوبة وسوءاً. على سبيل المثال، كان مصرف لبنان يمتلك 30 ملياراً في احتياطه قبل بدء الأزمة، أما اليوم فيمتلك فقط 11،9 ملياراً، ليهدر بذلك حوالي 18 مليار دولار كان يُمكن لها أن تكون جزءاً من خطة التعافي المالي. فالغياب الواضح لرؤية موحدة واعتماد الأساليب غير المجدية في التعاطي مع الملفات يُصعّب مهمة انتشال لبنان من مأزقه، كوضع ميزانية عامة وفقاً لحسابات سياسية معينة، وتغيير الاصلاحات في قطاع الكهرباء بطريقة تلائم بعض القوى السياسية التي لها مصلحة مباشرة في عدم إجرائها، وربط استرجاع الأموال المهربة والمنهوبة بهيئة مكافحة الفساد التي لم يتم حتى الآن وضع آلية لها بالشكل المطلوب في مجلس النواب”.

ويضيف: “من هنا، لا وجود لأي نية أو قرار سياسي فعلي لكي تكون هناك إصلاحات جذرية توقف هدر المال العام واستنزاف الاحتياطي الالزامي المتوافر لدى مصرف لبنان، خاصة أن مرحلة الاتكال على المساعدات الخارجية لم تعد هي الحل فقط”. وبحسب نشابة، فان “الاتفاق اليوم مع صندوق النقد الدولي سيمنح لبنان ما بين 4 و 6 مليارات دولار فقط، علماً أن حكومة حسان دياب وحدها صرفت حوالي 16 مليار دولار. وعليه فان الأموال المرتقبة من الصندوق لن تكون هي الأساس من أجل النهوض، بل الاصلاحات والرؤية الاقتصادية الشاملة التي على لبنان اتباعها، على أن يتم لاحقاً النظر في أي من القطاعات يجب أن تُستثمر هذه الأموال”، لافتاً إلى أن “السير في قرارات بلا أي خطة والاكتفاء بالآمال التي تُعقد على تنفيذ الموازنة العامة والتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد، يدخل في إطار المخاطرة ويُبقي منطق المراوحة كما هو ويأخذ لبنان من انهيار إلى آخر”.

الهروب الى الأمام

ويعتبر نشابة أن “الانهيار الحاصل اليوم هو جراء وجود حلف ومنظومة سلاح وسلطة تُعرف مجتمعةً بالدولة العميقة، لديها مجموعة من المصالح المشتركة لا تستطيع التخلي عنها أو التفريط بها وبحصتها من تقاسم الحصص والأموال خاصة تلك التي كان يحصل عليها لبنان من المؤتمرات الدولية والتي كانت العديد من بنودها الإصلاحية تلقى معارضة شديدة حينها. حتى أن الأموال التي حصل عليها لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تم صرفها وهدرها بطريقة عشوائية، إلى أن جاءت الهندسات المالية في ظل واقعٍ فرض شُحاً في دخول العملة الخضراء إلى لبنان بسبب الأزمة السورية وبدء الحرب في اليمن، بحيث تم استخدام ودائع المواطنين في المصارف على المشاريع الخاصة وعلى زيادة هدر المال العام، الأمر الذي تسبب بخسارة أموال اللبنانيين وتلك المستدانة من الخارج (الدين الداخلي والخارجي). ومع وقوع الأزمة، كانت الحلول بمعظمها تأخذ طابع الهروب إلى الأمام”.

ويقول: “حتى الآن وعلى الرغم من الانهيار الاقتصادي والمالي، لا تزال السرقات مستمرة في العديد من الملفات. وهنا يكمن السؤال: هل يمتلك لبنان القدرة على الخروج من هذه الأزمة؟ بالطبع لديه، لكن ذلك يحتاج إلى قرار وإرادة سياسية ومصارحة المواطن بخطة اقتصادية واضحة وعادلة وقابلة للتطبيق، وإن كانت بنودها صعبة وتتطلب مرحلة من التقشف المالي من أجل النهوض، فالثقة المتصدعة اليوم في حال تم ترميمها بين المواطن والسلطة ستكون بمثابة خارطة طريق لبناء الاقتصاد من جديد. لكن تحميل المودعين والمواطنين فقط الخسائر وعدم تحميلها لمن هرّبوا أموالهم وللمسؤولين الأساسيين عن خلق هذا الانهيار لن يؤدي إلى أي نتيجة، لأن الترقيع كما يجري اليوم سيؤدي حتماً إلى انفجار اجتماعي”.

عودة ارتفاع الدولار

وعما إذا كان المواطن اللبناني قادراً على تحمل ارتفاع الدولار مجدداً في ظل الغلاء وانهيار القدرة الشرائية، يوضح نشابة، أنه “كانت هناك محاولة رُصدت لها ميزانية من الدولار لضخها في الأسواق إلى حين اجراء الانتخابات النيابية، لا سيما وأن المصرف المركزي حقق أرباحاً من طيران الشرق الأوسط، ومن حقوق السحب الخاصة بلبنان، ومما تم شراؤه من التحويلات المالية من الخارج. أما اليوم، ومع ارتفاع الأسعار عالمياً (القمح والنفط) والذي أدّى إلى ارتفاع أسعار البضائع بسبب زيادة تكلفة الانتاج، فان ما تم رصده من كميات دولارية لن تكون كافية. فمثلاً إذا كان لبنان بحاجة إلى مليار دولار سيكون بعد هذه الارتفاعات بحاجة إلى 1.3 مليار دولار. لذا، فان هذه الميزانية المرصودة من الناحية التقنية غير قادرة على تلبية الاحتياجات اليوم ولن تكفي إلى منتصف أيار. أما من الناحية السياسية، فإذا كان المطلوب الاستمرار بهذه الخطوة الى حين موعد الاستحقاق الدستوري، يحتاج ذلك إلى قرار سياسي يسمح للمركزي بصرف المزيد من الاحتياطي الالزامي (تخفيض نسبته إلى ما دون الـ 14%). لكن ذلك لن يكون لمصلحته وسيزيد من خسائره المعلنة في خطة التعافي الاقتصادي، وهو بحسب صندوق النقد الدولي ليس حلاً مستداماً يمكن الاستمرار فيه أو البناء عليه. في المقابل، فإن إيقاف هذا التعميم إن لم يترافق مع إصلاحات فورية تُسهم في إدخال الدولار إلى لبنان من أجل الاستثمار للمساعدة في تثبيت سعر صرف الليرة، سيترك سعر صرف الدولار يتخطى حاجز الـ 40 أو الـ 50 ألف ليرة”.

السيناريو الأسود

ورداً على سؤال عما يعنيه تأجيل الانتخابات النيابية وماذا لو أوقف مصرف لبنان العمل بالتعميم رقم 161، يلفت نشابة إلى محاولات جدية كانت تهدف إلى تأجيل الانتخابات حتى ما بعد الاستحقاق الرئاسي، معتبراً أن ذلك “سيضع لبنان في دوامة من الأشهر الصعبة خاصة وأنه لا يوجد في الوقت الراهن أي تقدم في المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي. وهذا سيأخذ لبنان الى المزيد من التصعيد السياسي وقد يؤدي إلى بعض التوترات الأمنية والاجتماعية لا سيما في ظل تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية وانعكاساتها وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وبالتالي سيدخل لبنان حينها نفقاً مجهولاً لا يمكن تحديد مساره في الوقت الحالي، ولكنه حكماً لن يكون مسار سلم وازدهار واستقرار”.

ويختم نشابة بالقول: “إن المجتمعين الدولي والعربي يُصران على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، لذا، فان اتخاذ قرار تأجيلها قد يُعرّض لبنان إلى المزيد من العقوبات”.

شارك المقال