القطاع العام: ظالمٌ أم مظلوم؟

هدى علاء الدين

لطالما شكّل القطاع العام وجهة الطامحين إلى استقرار وظيفي ومالي بسبب التعويضات والتقديمات والتحفيزات التي كانت تميز هذا القطاع عن سواه، إلا أن الأزمة الاقتصادية التي خنقت لبنان منذ العام 2019 دفعت القطاع العام إلى الانزلاق نحو الهاوية من دون أي رادع، بعدما ألقت بانعكاساتها على موظفيه الذين باتوا بمعظمهم يتقاضون رواتب زهيدة بلا أي قيمة مادية أو معنوية. ومع إغلاق الدوائر الرسمية لأبوابها وإعلانها الإضراب المفتوح إلى حين النظر بأوضاع موظفي الإدارات والمؤسسات العامة، تتجه الأنظار إلى ما ستؤول إليه التحركات الرسمية علّها تحمل انفراجاً قريباً لإنهاء حالة الشلل التي أصابت سير العمل في معظم القطاعات العامة.

رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي يتابع هذا الملف عبر سلسلة من الاجتماعات مع الجهات المعنية، كان قد خصّص إجتماعاً منذ أيام من أجل البحث في حقوق ومطالب موظفي القطاع العام، أعلن فور انتهائه وزير العمل مصطفى بيرم الإتفاق على تحرير المساعدة الاجتماعية من أي شرط، على أن يتم دفعها فورياً والاستمرار بها، في حين يوكل إلى الوزير أو المسؤول المعني تأمين استمرارية الخدمة العامة بما يؤمن حقوق الناس وتسيير المرفق العام، مشيراً إلى أن الإضراب المفتوح على الرغم من أحقيته، إلا أنه سيخلق إرباكاً وسيؤثر في الواردات وفي حركة الإدارة. في المقابل، أعلن مصرف لبنان أنه سيقوم بدفع المساعدة الاجتماعية عن شهري آذار ونيسان التي باشرت بتحويلها وزارة المالية لموظفي القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين كافة، مشدداً على جميع المصارف التزام تسديد هذه المساعدة الاجتماعية فور ورودها الى حسابات الموظفين نقداً وبالدولار الأميركي على سعر منصة “صيرفة”.

تحديات كثيرة تواجه الموظف في القطاع العام، خصوصاً الفجوة المالية التي تتسع رقعتها يوماً بعد يوم مقارنة بالموظف في القطاع الخاص الذي يتقاضى جزءاً من راتبه بالدولار تمكنه من الصمود في وجه التضخم والغلاء، أبرزها الطبابة والاستشفاء والأدوية والتعليم والبنزين واشتراك الكهرباء وقريباً تعرفة الاتصالات وفاتورة الانترنت التي أصبحت جميعها بعيدة المنال بسبب تدهور القيمة الشرائية للرواتب التي لا تزال تحتسب على سعر صرف الـ 1500.

وفي هذا الإطار، يقول أحد العاملين في القطاع العام لموقع “لبنان الكبير”، أنه تقاضى هذا الشهر راتبه الذي تبلغ قيمته 1.200.000 ليرة لبنانية فقط من دون الحصول على بدل نقل وبدل أتعاب المشاركة في الانتخابات النيابية، مشيراً إلى أنه اتخذ قراراً بعدم الذهاب إلى عمله خصوصاً أنه يحتاج يومياً إلى حوالي 300 ألف للوصول إلى عمله. كما عبّر عن امتعاضه من المصارف التي وضعت سقفاً لا يتجاوز الـ 50 دولاراً للسحب، لافتاً إلى أنه لدى الذهاب إلى المصرف لسحب راتبه الذي يبلغ 45 دولاراً، طلب منه الموظف دفع 5 دولارات لكي يعطيه في المقابل 50 دولاراً، لينتهي الأمر بنهاية المطاف بسحبه 40 دولاراً وما تبقى من قيمة راتبه بالليرة اللبنانية على سعر منصة “صيرفة”. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن تدني قيمة الأجور بهذا الشكل، دفعت معظم العاملين في القطاع العام إلى القيام بأعمال أخرى كحل بديل من أجل الحصول على مدخول مالي آخر يُعيلهم وعائلاتهم، بانتظار تصحيح أجورهم أسوة بالعاملين في القطاع الخاص، بعد أن لامس الحد الأدنى للأجور فيه حوالي 2.600.000 مع بدل نقل تم رفعه من 64 ألفا يومياً إلى 95 ألف ليرة، على أن لا يتجاوز مجموع راتب الموظف في القطاع الخاص الـ 5 ملايين ليرة أي ما يوازي راتب موظف الفئة الأولى في القطاع العام.

معاناة القطاع العام الذي يحتل مرتبة متقدمة على أجندة الإصلاحات التي يجب على لبنان البدء بتنفيذها، كخطوة أساسية من أجل معالجة أزماته، تكشف مع مرور الوقت عن اضمحلال الواردات الحكومية وعدم قدرتها على سداد المساعدات الاجتماعية الخاصة به بعدما أغرقته طويلاً بالأموال بطريقة عشوائية وغير مدروسة، ليدفع اليوم موظفوه ثمن التشوّهات التي حصلت عبر السنوات الماضية نتيجة التوظيف العشوائي والتضخم الهائل في موظفيه الذين يتجاوز عددهم الـ 230 ألف موظف، شكلت رواتبهم عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة التي شهدت في العديد من الأحيان عجزاً مالياً، لا سيما بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب التي استنزفت الأموال العامة ورفعت من قيمة العجز نتيجة زيادة الإنفاق، خصوصاً أن إقرارها لم يتزامن مع أي إصلاحات هيكلية لا سيما في قطاع الكهرباء أو تحسين الجباية الضريبية التي كان يمكن عبرهما تقليص العجز وزيادة الواردات الحكومية تفادياً لأي تداعيات سلبية.

لكن الفساد المستشري واتباع سياسة هدر الأموال العامة بلا رقيب أو حسيب والتمادي في التوظيفات السياسية الكيدية ساهمت جميعها في انهيار هذا القطاع الذي بات يشكل العبء الأكبر والجزء الأكثر تشعباً في أزمة لبنان المالية، وهو أمر أشار إليه صندوق النقد الدولي الذي طالب بصريح العبارة بإعادة هيكلته وتقليص حجم موظفيه رافضاً زيادة الرواتب قبل اتخاذ هذه الخطوة الإصلاحية، ليدفع هذا المطلب الحكومة إلى تعويض الموظفين بمساعدات اجتماعية غير مستدامة كحلّ ترقيعي نتيجة غياب أي مورد مالي يغطي كلفتها…

وعليه يبقى السؤال عما إذا كان القطاع العام ظالماً أم مظلوماً في أزمة لبنان التاريخية؟ بانتظار اتضاح الإجابة!

شارك المقال