“أزمة ثلاثية” تعصف بسوق العمل

هدى علاء الدين

شكّلت الأزمات المتشابكة في لبنان أرضاً خصبة لولادة العديد من الأزمات المتفرعة التي طالت انعكساتها وتداعياتها القطاعات والأسواق كافة من دون استثناء الأمر الذي دفع المنظمات الدولية والأممية والحقوقية إلى نشر تقارير دورية تفند بالأرقام أثر هذه الأزمات وكيفية معالجتها من أجل إيقاف منحاه الكارثي على المديين المتوسط والطويل. آخر هذه التقارير ما أطلقته كلاً من منظمة العمل الدولية واليونيسف والذي تضمن تقويمين حول سوق العمل وديناميكيات السوق والثغر القائمة في ما يخص المهارات في لبنان، وذلك من أجل الإستجابة الكفوءة لاحتياجات السوق، وزيادة توفير فرص العمل وتعزيز الإقتصاد.

أزمة ثلاثية

التقرير الذي حمل عنوان Synthesis of the Crisis Impact on the Lebanese Labor Market and Potential Business, Employment and Training Opportunities، والذي تم نشره باللغة الإنكليزية، عرض نتائج ملخص التقريرين لتأثير الأزمة في سوق العمل اللبنانية وفرص العمل والتوظيف والتدريب المحتملة وتقويم ذلك على المستوى الوطني، بحيث قدّمت هذه النتائج لمحة عامة عن القطاعات والعاملين المتأثرين بالأزمات المتعددة في لبنان، موصياً بفرص العمل والتدريب المحتملة إستجابة للوضع القائم.

وحسب التقرير، فإن لبنان يواجه اليوم “أزمة ثلاثية” ناجمة عن الانهيار الاقتصادي العالمي وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب، الأمر الذي دفع شريحة واسعة من اللبنانيين وغير اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر، بالتزامن مع تدهور سبل عيش أولئك الذين يعيشون بالفعل في فقر بسبب التضخم وانخفاض فرص العمل وتقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية. فقد أدت التأثيرات غير المسبوقة التي نتجت عن الأزمات المتشعبة والمعقدة، إلى مشاكل جمة أصابت سوق العمل اللبنانية في الصميم ودفعته باتجاه فقدان ملايين الوظائف، لتكون بذلك فئة الشباب هي الأكثر تضرراً من تلك التأثيرات الخطيرة، ولا سيما أن نصف عدد الشباب في لبنان كانوا يعملون قبل حصول الأزمة في قطاعات كانت مهددة بالتوقف وبالتالي فقدوا وظائفهم بعدها. في المقابل، فإن حوالي ربع الشباب لم يندمجوا في أي وظيفة أو فرصة عمل أو تعليم أو تدريب، وبالتالي فمن المتوقع أن تؤدي الإضطرابات التي طالت التعليم والتدريب ومحدودية فرص العمل المتوافرة إلى تقلص نشاط العمالة وزيادة معدلات NEET (اختصار لمن هم ليسوا في التعليم أو التوظيف أو التدريب).

أما الشركات فقد واجهت عمليات إغلاق موقتة ودائمة منذ ربيع العام 2020 بسبب استمرار الاضطرابات في سلاسل التوريد وانخفاض حركة الأعمال. فمن إجمالي عينة تضمنت 363 مشروعاً صغيراً، توقف 51 في المئة منها بشكل موقت عن العمل، ومن بين 1.987 عاملاً تمت مقابلتهم، تم تسريح 84 في المئة من عملهم، في حين شهد 94 في المئة منهم انخفاضاً كبيراً في أجورهم، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بشكل جذري.

حواجز هيكلية وشخصية

ومع استمرار تفاقم الأزمة الثلاثية، يكافح الشباب للعثور على الأمل والدعم والفرص وسط اليأس المتزايد، إذ يعيش في لبنان حالياً حوالي 6 ملايين مقيم لبناني وغير لبناني، 44 في المئة تحت سن الـ 24، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمتوسط العالمي. كما أنه وعلى الرغم من دخول حوالي 50.000 شاب لبناني إلى سوق العمل سنوياً، إلا أن الكثيرون لا يستطيعون الحصول على وظيفة في الشركات المحلية ولا سيما في ظل الأزمة الحالية. كذلك، فإن الشباب يواجهون حواجز هيكلية تشمل تناقص فرص العمل وأنظمة التعليم غير المجهزة للمنافسة على الوظائف النادرة بشكل متزايد والافتقار إلى المهارات والخبرة في سوق العمل والشبكات المهنية، فضلاً عن الحواجز الشخصية المتمثلة في نقص الأموال والشبكات المهنية المحدودة، بحيث تُبقيهم هذه العوامل مجتمعة خارج سوق العمل.

ولفت التقرير إلى أنه وفي حين تُكثف الحكومة اللبنانية جهودها من أجل وضع خطة إنقاذ بهدف التخفيف من تأثير الأزمة الحالية عبر تنفيذ إصلاحات مختلفة تُمهد الطريق لنموذج جديد أكثر استجابة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية على المستوى الكلي، لا بد من إجراء بعض التدخلات الاجتماعية والاقتصادية على المستوى الكلي والمتوسط والجزئي تعالج ثلاثة عوامل مترابطة تعوق عملية التوظيف هي نقص الاستثمار وانخفاض القدرة على النمو، فجوة مهارات سوق العمل، وعدم الاهتمام بالوظائف المعروضة بسبب ظروف العمل السيئة أو الأجور المنخفضة، بحيث يجب أن تُصمم مثل هذه التدخلات لضمان إشراك جميع فئات المجتمع وأولئك المتأثرين بشكل مباشر بالأزمة.

مستقبل عمل أفضل

وفيما يتعلق بالتدخلات القطاعية، يمكن للعديد من القطاعات أن توفر فرصاً اقتصادية. فقد ساعدت الأزمة والإجراءات الحكومية على سبيل المثال على تسريع نمو التجارة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في لبنان، علماً أن الاستفادة من الحاجة المتزايدة لهذه التجارة والأعمال الرقمية والاقتصاد الأخضر لا يدعم فقط الشركات والعمال خلال هذه الفترة، بل يمهد الطريق أيضاً لمستقبل عمل أفضل. كما أن التركيز على القطاعات الناشئة وفرص الأعمال وربط تنمية المهارات بالاستثمار يُعد أمراً بالغ الأهمية لزيادة العمالة كمّاً ونوعاً. فضلاً عن أن الدعم والاستثمار في القطاعات الإنتاجية مقروناً بخطة تنمية المهارات التي تتمحور حول الإنسان تعمل على توسيع الإنتاج المحلي والصناعة وزيادة القدرة التنافسية على المستويين المحلي والدولي.

ووفقاً للأرقام، فقد بلغ معدل بطالة الشباب 23.3 في المئة قبل الأزمة، ومن المتوقع أن ترتفع معدلاتها خصوصاً بين الشباب التي تمتلك وظائفهم حساسية عالية لناحية التغيرات في الطلب عليها. كما من المتوقع أن تزداد معدلات خمول الشباب ومعدلات الـ NEET بشكل كبير بسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي وتزايد عدم المساواة في الوصول الرقمي والمشاركة الالكترونية. ومن أصل 819.000 عامل، هناك حوالي 50 في المئة من القوى العاملة اللبنانية (610.000 عامل) و60 في المئة من غير اللبنانيين (208.000 عامل) يعملون في قطاع العقارات والأنشطة التجارية والإدارية، قطاع البناء، قطاع التصنيع، وقطاع الفنون والترفيه، هم من أكثر الذين يخضعون للتخفيضات في الأجور وفقدان الوظيفة الموقتة أو الدائمة.

اقتصاد أكثر شمولاً

وتعليقاً على نتائج التقرير، اعتبرت المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات، أن لبنان يحتاج في ضوء الأزمات المتشعبة التي يواجهها إلى الإنتقال سريعاً إلى إقتصاد أكثر شمولاً وإستدامة ومرونة، وإلى المساعدة على خلق القوى العاملة في سوق العمل، مشيرة إلى ضرورة اتباع نهج محوره الإنسان في تنمية المهارات الفنية أو الشخصية، فضلاً عن دعم ريادة الأعمال وفرص العمل الحرّ لتعزيز سبل العيش وخلق فرص جديدة للعمل اللائق مع تزويد الشركات بالتدريبات اللازمة والدعم الفني الموجب لتحسين استمرارية أعمالها وقدرتها على الصمود وتوفير الوظائف اللائقة.

من جهتها، أشارت نائبة ممثل منظمة الامم المتحدة للطفولة “اليونيسف” في لبنان إيتي هيغنز، إلى أن الشباب يمثلون في لبنان أكثر من 30 في المئة من مجموع السكان، غير أن الأزمة تمنعهم من استثمار إمكاناتهم الإقتصادية، مما يحدّ من قدرتهم على مساعدة بلدهم على تجاوز أزماته.

شارك المقال