إنها “العصفورية”… وفي جنون العهد فنون

ميرنا سرور
ميرنا سرور

“ساعدوا أنفسكم حتى نساعدكم”، جملة رددها المجتمع الدولي على مسامع المسؤولين اللبنانيين طيلة عقود. حدّة الرسالة تفاقمت تدريجياً مع الموفد الفرنسي بيار دوكان، لتصل الى حد التحذير من: إمّا الإصلاح وإمّا “الجوع”. دوكان الذي وصل إلى لبنان مطلع الأسبوع الجاري في زيارة التقى خلالها الرؤساء الثلاثة، حثّ المسؤولين على ضرورة إنجاز الإصلاح والإتفاق مع صندوق النقد الدولي لأن انحدار الوضع في لبنان قد يصل إلى حدّ عدم التمكن من توفير القمح والطحين للمواطنين!.

إلى ذلك، نبّه دوكان على أهمية الاسراع في تطبيق شروط الاتفاق مع صندوق النقد، إذ أن “كل تأخير في العلاج والانقاذ، ستكون كلفته كبيرة جداً”. ولفت المبعوث الفرنسي الى أن الفرصة لا تزال متاحة للوصول الى اتفاق حتى اللحظة، محذّراً من أنّ عواقب تفويت هذه الفرصة التي ينبغي الّا تؤجّل إلى ما بعد الاستحقاق الرئاسي، ستكون كارثية.

تراجع لبنان كأولوية لدى المجتمع الدولي

وأوضح دوكان أن التأخير يعني أنّه “لن يبقى هناك أي اهتمام لانجاز الصندوق عقد اتفاق مع لبنان، لأنّه بعد أزمة كورونا وتداعياتها وآثارها السلبية التي أرختها على مستوى العالم، إضافة إلى تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيراتها، وكذلك أزمة الجوع الحادة المتفاقمة على أكثر من ساحة دولية، فإنّ الدول المانحة أمام هذا الوضع، قد لا يعود لديها أموال فائضة تقدّمها إلى لبنان، لا بل أكثر من ذلك قد تصل إلى لحظة لا تمتلك وقتاً تمنحه للبنان”.

تحذير دوكان من تراجع مكانة لبنان على سلّم أولويات المجتمع الدولي تزامن مع دعوة قديمة مستجدة للخارجية الأميركية إلى المسؤولين اللبنانيين للتصرف بجدية وبصورة طارئة لتطبيق الإصلاحات واتخاذ الإجراءات الضرورية لإنقاذ اقتصاد لبنان بما في ذلك إجراءات يمكن اتخاذها في مرحلة تشكيل الحكومة.

حالة الإنكار… تابع

لم يشهد سلوك المسؤولين اللبنانيين إزاء هاتين الدعوتين أي تغيّر، وعلى الرغم من خطاباتهم المتكررة حول فداحة الوضع، إلا أن سلوكهم على أرض الواقع لا يزال يعكس حالة إنكارٍ مرضيّة يعيشونها، ففيما تشتد حدّة الرسائل الدولية، تنصرف بعبدا مثلاً الى الانشغال بالمناكفات مع المصرف المركزي وحاكمه، فتوفد قاضيتها المدللة غادة عون لأداء مشهدية استعراضية لها ما لها من عواقب على السوق النقدية. كما تمعن بعبدا في انحدارها الى مستوى غير مسبوق في التخاطب مع الرئاسة الثالثة، لنرى ما حدث مع الرئيس سعد الحريري بالأمس، يتكرر اليوم مع الرئيس المكلف نجيب ميقاتي مع امتناع رئيس الجمهورية ميشال عون عن التوقيع على أي تشكيلة لا تضمن أن يكون لصهره المدلل حصّة الأسد داخل الحكومة، وما لم يحصل على تعهدات تضمن له إقالة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وتعيين بديل “عوني” له.

وفي جنون هذا العهد فنون، وها نحن اليوم نعيش آخر فصوله وأخطرها، إذ لا يأبه العهد ومن وراءه لما آلت إليه الأوضاع، بل يمعنون في سياسة المناكفات بدل الانصراف الى حل الأزمات الحياتية الطارئة كانقطاع الطحين وتهديد المواطنين بقوتهم اليومي، أو حل معضلة الكهرباء التي لم يعد اللبنانيون يرونها سوى في الأعياد والمناسبات السعيدة، أو حتى الامتناع عن تهشيم ما تبقى من القطاع المصرفي لضمان عودته الى عافيته يوماً، والتوقف عن عرقلة مسار خطّة التعافي.

كلفة الاصلاح تتفاقم

فوّت لبنان الكثير من فرص الإصلاح في تاريخه الحديث، بدءاً من بنود مؤتمري باريس 1 و2 الاصلاحية، وصولاً الى بنود “سيدر” والورقة الاصلاحية ذات البنود العشرين التي قدمها الحريري إبّان استقالة حكومته في العام 2019. والواقع أن كلفة الإصلاح تتفاقم، فلو كنا طبقنا بنود باريس 1 و2 لسيطرنا على تنامي الدين العام، ولو كنا أصلحنا قطاع الكهرباء لوفّرنا على أنفسنا نصف قيمة هذا الدين، وحينها لم تكن بنود الإصلاح قاسية كما هي الحال اليوم.

أما وأننا وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم، فإن كلفة الاصلاح هي بالتأكيد أقل إيلاماً من عدمها، فالمماطلة غير واردة، والبديل اليوم هو خروج الأمور عن السيطرة تماماً، كما أشار دوكان خلال زيارته. فهل يستشعر العهد مدى خطورة الوضع في أيامه الأخيرة ويكف عن مناكفاته؟ أم أنّه يعمل وفقاً لمبدأ “يا رايح كتّر القبايح”؟

شارك المقال