لماذا لبنان لن يكون أولوية في الخارج؟

المحرر الاقتصادي

لم يهوّل المنسق الخاص للمساعدات الدولية للبنان بيار دوكان حين أعلن تراجع أولوية الملف اللبناني في الخارج.

فما يحصل عالمياً اليوم يشير بوضوح إلى تنامي صعوبة حصول لبنان على دعم خارجي في ظل اتجاه العالم الى ركود اقتصادي مع انفلات التضخم الى مستويات قد تصعب السيطرة عليها، بحيث بلغ معدلات أعلى من المتوقع واتسع نطاقه ليشمل ما هو أكثر من أسعار الغذاء والطاقة.

كل صنّاع القرار في السياسات النقدية اتجهوا الى سياسات تقشفية صارمة في وقت تزداد الآفاق الاقتصادية العالمية قتامة، وفق توصيف صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي.

في نيسان الفائت، خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي إلى 3.6 في المئة للعامين الحالي والمقبل من 6.1 في المئة في 2021، وحذر من أن هذا المعدل قد يزداد سوءاً بسبب مخاطر التطورات المعاكسة المحتملة.

وقد تحقق العديد من هذه المخاطر بالفعل منذ ذلك الحين، وزادت حدة الأزمات المتعددة التي تواجه العالم. ومن المتوقع أن يخفض الصندوق توقعاته الى مستوى أقل في تقرير مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي الذي يصدره في 26 الشهر الجاري.

تقول رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا إن الآفاق لا تزال محفوفة بدرجة كبيرة من عدم اليقين. ومن ذلك، مثلاً، احتمال أن تؤدي زيادة الانقطاعات في إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا إلى دفع كثير من الاقتصادات إلى هوة الركود وإطلاق شرارة أزمة طاقة عالمية. وما هذا إلا واحد من العوامل التي يمكن أن تجعل الموقف العصيب بالفعل أشد سوءاً.

وتنبه الى أن الأوضاع ستكون قاسية في عام 2022 – وربما أكثر قسوة في 2023 مع زيادة مخاطر الركود – وإلى أن الارتفاع المزمن للتضخم يمكن أن يُغرِق سفينة التعافي ويزيد من الضرر الواقع على مستويات المعيشة، ولا سيما للفئات الضعيفة.

وفي مواجهة هذه التطورات التي تفاقمت مع الحرب الروسية – الأوكرانية وارتفاع أسعار النفط وتداعيات هذا الأمر على ارتفاع أسعار السلع، كان لا بد للمصارف المركزية في العالم من أن تلجأ الى سلاح الفائدة في محاولة منها لكبح التضخم. 76 مصرفاً مركزياً في العالم رفعت الفوائد، أهمها انعكاساً على الاقتصاد الدولي الاحتياطي الفيدرالي والمصرف المركزي الأوروبي. ويبدو أن هذه المصارف ستحتاج إلى مواصلة تشديد سياستها النقدية على نحو حاسم. والمعركة ضد التضخم تؤدي إلى زيادة مخاطر الركود.

فالاحتياطي الفيدرالي يتوقع أن يزيد في اجتماعه في 26 تموز الفائدة، بمقدار 75 نقطة أساس (فيما البعض يتحدث عن مئة نقطة أساس) بعد وصول التضخم الى مستويات لم يشهدها منذ أربعين عاماً (9.1 في المئة).

فيما وضع المصرف المركزي الأوروبي حداً لحقبة من معدلات الفائدة السلبية في منطقة اليورو، معلناً بصورة مفاجئة عن زيادة كبيرة بنصف نقطة لمحاربة التضخم المتسارع. فيما يتزايد القلق من وقوع منطقة اليورو في أزمة مالية جديدة، ربما ستكون أشد حدة من أزمة المال التي ضربتها عام 2011، حين سقطت دول عدة في شراك التخلف عن سداد الديون، واضطرت المفوضية الأوروبية الى الاستعانة بصندوق النقد الدولي لانقاذ اليونان من الإفلاس. في وقت يتزايد هروب المستثمرين الأجانب من السندات السيادية لكل من إيطاليا واليونان وإسبانيا. ويتزامن هروب المستثمرين من السندات السيادية في أوروبا مع الانهيار الكبير في سعر صرف اليورو.

ويؤثر التضخم المرتفع وارتفاع المعدلات على جبل الديون المتزايد في العالم. وهو ما أظهره التقرير الحديث الصادر عن “جي بي مورغان” والذي يفصّل بصورة صارخة حجم المشكلة، إذ يشير إلى أن إجمالي الدين العالمي بلغ 352 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في الربع الأول من هذا العام، حيث استحوذت ديون القطاع الخاص على ثلثي هذا الدين، وثلث لديون القطاع العام.

وفي تقرير لمعهد التمويل الدولي، بلغ الدين العالمي 303 تريليونات دولار في الربع الأول من العام 2022، وهو مستوى قياسي جديد يسجله.

وفي الأثناء، تشهد الأسواق الناشئة خروجاً كبيراً للأموال الساخنة، مع ارتفاع الدولار الأميركي نتيجة ارتفاع مستوى التضخم ومعدلات الفائدة في الولايات المتحدة. هذا يعني أن الدول الناشئة ستضطر إلى رفع الفوائد للحد من تآكل السيولة الأجنبية لديها، مما سيزيد الضغط على النمو الاقتصادي ويفاقم مخاطر الركود.

لماذا هذا العرض للاقتصاد العالمي؟

لقد أردنا من خلال هذه الصورة العامة لما يعانيه العالم اليوم وللتوجه في المستقبل أن نقول لمن يعنيه الأمر في لبنان ولمن يمعنون في تأخير الحلول – على صعوبتها – بأن العالم لا يضع لبنان في سلم أولوياته وسط المخاطر التي تلم به، وأن لبنان لن يكون قادراً على الاستعانة بدعم خارجي لوضع حد لانهيار اقتصاده. فحتى صندوق النقد الدولي الذي لجأ اليه لبنان للحصول على 3 مليارات دولار، سيكون في وقت من الأوقات مشغولاً بدول أخرى وضعها أشد صعوبة كما هي حال سريلانكا أو باكستان. وهذه حال الدول الأوروبية التي كانت وفرت تعهدات للبنان خلال مؤتمر “سيدر”.

والحال أن وسائل الخروج من عنق الزجاجة تقع خلف أبواب السياسيين، أي لا عصا سحرية من دون حل سياسي للأزمة، وتشكيل حكومة فعلية من صلاحياتها التوقيع على اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي.

كان يمكن لدول الخليج التي يتوقع أن تحقق معدلات نمو مرتفعة هذا العام خلافاً لما يحصل عالمياً (6.2 في المئة متوقعة في استطلاع لـ”رويترز” لدول مجلس التعاون الخليجي)، أن تمد يد العون لانتشال لبنان كما عهدناها في السنوات السابقة. لكن تصرفات البعض هنا ومواقفه تجاه دول الخليج وعمله وفق أجندة إيرانية معادية للعرب، دفعت الخليج الى الامتناع عن مساعدة لبنان.

كل ذلك يجعل الخروج من أزمتنا المركبة فائق الصعوبة كي لا نقول مستحيلاً. إنه الواقع وليس توقعات.

شارك المقال