هل تلقى المصارف مصير “إنترا”؟

زياد سامي عيتاني

هل صحيح أنّ المصارف اللبنانية باتت عاجزة عن إيفاء حقوق مودعيها من جراء الشح النقدي، بعد التحويلات التي قدرت بمليارات الدولار إلى الخارج، قبيل أن تتفاقم الأزمة المالية والاقتصادية، بغطاء سياسي، تحسباً للانهيار الحتمي الذي نعيشه؟ وبالتالي، وبناءً عليه، فإنّ حقوق المودعين المالية ستتحوّل إلى مجرد سندات ورقية لآجال بعيدة، لا قيمة لها، ولا قدرة على ايفائها!.

هذا السؤال بات يطرح بقوة وإلحاح، في خضم الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق، الذي يعيشه لبنان، من دون أن تلوح في الأفق القريب أي مؤشرات أو معطيات جِديّة لإمكان وقفه، أو بالحد الأدنى تبطئ وتيرته المتسارعة، وإزاء استمرار المصارف في إتخاذ المزيد من الاجراءات والتدابير التي تحجز فيها على أموال مودعيها (من أشخاص طبيعيين أو اعتباريين)، مقرونة بتقنين أمام تحويلات المؤسسات، مما يزيد من إنكماش العجلة الإقتصادية، ويكبّل الحركة التجارية، ويهدد بإفلاسات حتمية لمؤسسات وشركات، لا يزال أصحابها يؤجلون إعلانها.

أمام هذا الواقع المذعور، تستحضر ذاكرة اللبنانيين “المجيلين” المسكونين بحالة من الخوف الدائم من جراء تقلّب أوضاع البلاد وتسارع التطورات والأحداث على ساحاتها، تستحضرهم أزمة بنك “إنترا”، مقرونة بمخاوف جدية، ربما تكون في محلها، متسائلين: هل تنهار منظومة المصارف في لبنان، على غرار إنهيار “امبراطورية إنترا” منتصف ستينيات القرن الماضي، فتتبخر معها حقوق المودعين، خصوصاً مع تنامي الحديث عن أنّ إجمالي إحتياطي مصرف لبنان بات يقارب التسعة مليارات فقط؟

بعيداً عن تعقيدات الأوضاع المالية والاقتصادية بالغة الخطورة، والمتداخلة مع الواقع السياسي المأزوم بمندرجاته الداخلية والخارجية، فإنّنا سوف نعيد إستحضار أحداث أزمة بنك “إنترا” وتطوراتها، على أمل عدم مشاهدة ومعايشة سيناريو مشابه يقضي على النظام المصرفي اللبناني، الذي لطالما كان ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني.

 

كيف نشأ بنك “إنترا”؟:

في أعقاب النكبة عام 1948، لجأ الفلسطيني يوسف بيدس، إبن عالم أرثوذكسي يوناني، من بيته في القدس إلى لبنان، حيث سعى إلى إحياء مسيرته المصرفية.

إستهل طموحه بتأسيس مكتب صغير لتحويل الأموال، سماه “مكتب التجّار الدوليين”.

وبحلول عام 1951، بات يملك رأس مال كافٍ لإطلاق بنكIntra Bank S.A. Beidas، الذي اجتذب عملاء كثراً من خلال تقديم أسعار فائدة مرتفعة وقروض منخفضة.

وقد نجح بيدس في السيطرة على جزء كبير من السوق المالي في لبنان، وحاز على ثقة شرائح واسعة من المودعين والراغبين في استثمار أموالهم لا سيما من الفلسطينيين.

وفي أوائل الستينيات، بات بنك “إنترا” من أكبر المصارف في لبنان، وله فروع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك لندن وباريس ونيويورك، حيث بفضله رفع العلم اللبناني في ناطحة سحاب الجادة الخامسة.

في ذلك الوقت، أصبح بنك “إنترا” يملك بمفرده 40٪ من الودائع اللبنانية، فضلاً عن امتلاكه عدداً من كبرى الشركات الوطنية، التي كان من أبرزها شركة “طيران الشرق الأوسط”.

وقدرت ودائع “إنترا” في حينه بمبلغ 500 مليون دولار (4 مليارات دولار معدلة للتضخم). وهذا ما حدا في عام 1962 مجلة “تايم” الى إعلان بيدس “رجل المال الجديد في الشرق الأوسط”.

كما تمكّن بيدس من تأسيس مصارف شقيقة لـ”إنترا” ضَمت 33 فرعاً و4 مصارف في لبنان و48 شركة، إضافة إلى الشركات التابعة مثل “شركة مرفأ بيروت”، و”طيران الشرق الأوسط”، و”راديو أوريان”، و”فندق فينيسيا” و”شركة التلفزيون اللبنانية” و”إستديو بعلبك” و”حوض لاسيوتا” لبناء السفن في فرنسا وغيرها.

وتجاوزت موازنة مجموعة “إنترا” في تلك الفترة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية، وكانت تشغل ثلاثين ألف عامل، أي أكثر من موظفي القطاع العام آنذاك.

أزمة أم مؤامرة؟:

في أوائل عام 1966، دفعت أسعار الفائدة الأوروبية إلى هروب رؤوس الأموال من بنوك بيروت إلى خزائن ألمانيا الغربية، مما تسبّب بانخفاض قاعدة السيولة لدى بنك “إنترا”، الأمر الذي دفع المودعين الى سحب ودائعهم، بحيث أنه في يوم 10/10/1966، بدأت الجموع تتهافت على فروع البنك لسحب ودائعها، مما أدى بعد أربعة أيام إلى نفاد السيولة من الصناديق. وزاد وضع البنك سوءاً، حتى أنه بات يحتاج إلى قرض حكومي، للتمكّن من تجاوز أزمته، والقدرة على البقاء.

لكن بيدس لم يتمكّن من الحصول على هذا القرض لأسباب مختلفة، منها العداء المستحكم الذي كان سائداً وقتذاك مع جمعية المصارف، والخلاف مع رئيسها بيار إده، فضلاً عن أنه غير لبناني، بحيث نقل عن نائب حاكم مصرف لبنان قوله لبيدس: “أنت لست لبنانياً ولبنان لا يريدك أن تتحكم في إقتصاده”.

وعن هذه الأزمة كشف الباحث والأكاديمي كمال ديب في كتابه “يوسف بيدس – إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان” (دار النهار، 2014)، أسباب أزمة “إنترا”، قائلاً: “إنه إلى جانب (العنصرية اللبنانية ضدّ الرأسمال الفلسطيني، وضدّ الأدمغة الفلسطينية، وتكتّل الأعداء في لبنان من سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وعائلات، ضدّ بيدس وإمبراطوريّته)، فقد حَاربت الرأسمالية العالمية الازدهار المالي والمصرفي في لبنان الستينيّات والذي قاده بيدس”.

وأضاف: “استعملت المصارف العالمية نفوذها لمحاربة (إنترا) بدعم من الحكومات الغربية، إلى جانب إرتفاع أسعار الفائدة في الأسواق العالمية الكبرى بشكل دراماتيكي أعجز (إنترا) عن مواكبته”.

كذلك، ذكر ديب في كتابه سبباً آخر، وهو موقف بيدس من الصراعات السياسية العربية، وهو المؤيّد لنهج جمال عبد الناصر، فضلاً عن مساهمته في تمويل المنظمات الفلسطينية، التي بدأت تنتشر في لبنان، وتقديم الدعم المالي لها.

وتردّد وقتها أن رئيس الجمهورية شارل حلو طلب من بيدس تقديم دعم مماثل للجيش اللبناني من خلال الموافقة على إقراض الدولة مبلغاً كبيراً من أجل تزويد المؤسسة بالأسلحة، لكن بيدس رفض الطلب، إمّا بسبب معارضته للجيش، أو لنقص السيولة الكافية. واستغل رفضه في نشر شائعات حول تجميد السيولة لدى بنك “إنترا”، وبالتالي تعزيز إفلاسه.

من جهتها، وفي أحد إصداراتها التي نشرت في تشرين الثاني 1966، ذكرت مجلة “التايم” أن “ثلاث دول تآمرت لإسقاط البنك الدولي:

– بريطانيا التي استاءت من رفض بيدس شراء طائرات VS-10 البريطانية لشركة “طيران الشرق الأوسط”.

– الحكومة الفرنسية، التي كانت تمتلك 15٪ من أسهم شركة “طيران الشرق الأوسط”، وتطمح إلى وضع يديها على بقية الأسهم في الشركة، وطلبت من Intra exigente بناء المقرّ الأوروبي في باريس.

– روسيا التي كانت مستاءة من علاقات بيدس بالادارة الأميركية، فطلبت من “نارودنابانكا” سحب 5 ملايين دولار من البنك”.

بدوره كتب إدوارد سعيد، أحد أقارب بيدس، أن هذه القضية “بدت لي رمزاً للمسار المكسور الذي فرضه الكثير منا على أحداث عام 1948”.

تعمد الحكومة عدم إنقاذه:

وبهدف السعي الى معالجة أزمة تعثّر “إنترا”، تم تعيين صديق بيدس النائب نجيب صالحة رئيساً لمجلس إدارته، وحاول جاهداً مناشدة رئيس الحكومة ووزير المالية عبد الله اليافي أن تقرض الحكومة البنك لمنع إنهياره، إلا أن الأخير رفض ذلك.

وهذا الرفض دفع بيدس للتوجّه إلى أوروبا بحثاً عن مستثمرين مع تفاقم الوضع داخل مصرفه، من دون أن يتمكّن من ذلك، خصوصاً مع تناقل الصحف خبر بلوغ سحوبات المودعين خلال شهر واحد 30 مليون دولار.

وبحلول منتصف شهر تشرين الأول، تفاقم إنتشار شائعات الإنهيار الوشيك لبنك “إنترا”، واجتاحت بيروت كالنار في الهشيم.

في 14 الشهر نفسه، قام البنك بتسليم مودعيه 70 مليون دولار، مما تسبّب بتراجع موجودات البنك النقدية إلى 330 ألف دولار.

في تلك الليلة، دعا رئيس الجمهورية شارل حلو مجلس الوزراء إلى اجتماع طارئ، خصّص للبحث في أزمة “إنترا”، بحضور نجيب صالحة، الذي أكّد أمام المجلس أن الحصول على قرض صغير، هو كلّ ما يلزم لضمان مستقبل البنك، بالنظر إلى أصوله العقارية المهمّة.

وفي ضوء ذلك، أعلن إفلاس “إنترا” بعد إنهياره الصاعق، مما تسبّب بأزمة إقتصادية ومالية عارمة هزت الاقتصاد اللبناني، وسمعة لبنان على صعيد التمويل الدولي. وهذا ما حدا بالحكومة اللبنانية حينها إلى إقراض كلّ مصرف محلي مبلغ 200 مليون دولار، باستثناء “إنترا”، وذلك ثأراً شخصياً من بيدس، الذي وصفه اليافي بأنه “محتال”!.

نهاية الأسطورة يوسف بيدس:

سمع بيدس عن إفلاس بنكه في نيويورك، ثمّ تتبّع القضية من سان باولو في البرازيل، من دون أن تتراجع عزيمته، على الرغم من إنهيار امبراطوريّته، بحيث أكّد “أنّ كثيرين سيعتقدون أنني سأطلق النار على نفسي، ولكن بحكمتي وخبرتي، يمكنني أن أبتكر شيئاً أكبر من إنترا”….

بعدها انتقل إلى سويسرا، التي أوقف فيها، لأنه كان يحمل 7000 دولار نقداً، و30،000 دولار شيكات، ومفاتيح لصناديق الودائع الآمنة في جميع أنحاء أوروبا.

وقدّم لبنان في هذا الوقت طلباً لتسليمه، لكنّ النهاية كانت قريبة بالفعل، إذ أصيب بسرطان البنكرياس، وتوفي عن عمر يناهز 56 عاماً في 1 كانون الأول 1968، بعد عامين من إنهيار مصرفه.

الفارق الجوهري والكبير في المقاربة بين أزمة بنك “إنترا” منتصف ستينيّات القرن الماضي، وبين أزمة المصارف في هذه المرحلة، أنّ مؤامرة متعددة الأبعاد تسبّبت بإنهيار امبراطورية يوسف بيدس، الذي حرص على سداد حقوق كلّ المودعين، في حين أنّ المصارف اليوم تتحمّل جزءاً أساسياً بالتواطؤ مع الطغمة الحاكمة على إنهيار المالية العامة والإقتصاد الوطني(!)، واستطراداً الامتناع المقونن من تعاميم مصرف لبنان عن سداد حقوق مودعيها، وسط تعاظم القلق من عجزها عن ذلك، في ظل الحديث عن إضمحلال مؤونتها النقدية!

شارك المقال