القطاع العام يواجه الشغور بفائض عشوائي

هدى علاء الدين

يُشكل القطاع العام المدخل الأساس لأي إصلاح قادم في لبنان وذلك استجابة لمتطلبات مواجهة التحديات الاقتصادية التي جعلت من هذه القضية العنوان الأبرز للنهوض من جديد، انطلاقاً من أن تحديث العمل الاداري وتفعيل الرقابة والشفافية في كل ما يتعلّق بهذا القطاع سيُبعد عنه حتماً شبح الفساد والهدر الذي جعل منه عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة وموازناتها العامة على مدى سنوات.

آخر الأرقام الصادرة عن مجلس الخدمة المدنية تشير إلى أن العدد الاجمالي للموظفين والمتعاقدين والمستخدمين والأجراء وأعداد العاملين في جهاز الدولة المركزي وفي المؤسسات العامة والبلديات والمصالح والصناديق المستقلة والمجالس والهيئات والمؤسسات التي تمول جزئياً أو كلياً من الدولة بلغ 91.961 موزعاً بين 37.197 موظفاً ومستخدماً، 3.452 أجيراً، 37.916 متعاقداً و13.396 عاملاً بأي صفة كانت.

وبحسب التبعية الادارية، فقد استحوذت الادارات العامة على 65.054 بينهم 49.527 في وزارة التربية والتعليم العالي (أفراد الهيئة التعليمية في المديرية العامة للتربية وفي المديرية العامة للتعليم المهني والتقني بالاضافة إلى المستعان بهم في التعليم الأساسي والثانوي بموجب عقود شراء الخدمات) و15.527 في باقي إدارات الدولة، و25.635 في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة والصناديق والمجالس والهيئات والمؤسسات التي تمول جزئياً أو كلياً من الدولة و1.272 في البلديات الخاضعة لصلاحيات مجلس الخدمة المدنية. أما عدد المستخدمين والمتعاقدين والأجراء في ملاك المؤسسات العامة، فقد بلغ 11.167 منهم 3.004 في المؤسسات الخاضعة لصلاحيَّة مجلس الخدمة المدنية، و8.163 مستخدماً في المؤسسات غير الخاضعة له، مع العلم أن هذه الأرقام لا تشمل 11 إدارة عامة و32 مؤسسة عامة لم تودع أي مستند تنفيذاً للمسح الوظيفي الذي قام به مجلس الخدمة المدنية.

وأظهر المسح أن عدد الوظائف الملحوظة في الملاك هو 28.082 وظيفة وأن عدد الوظائف المشغولة هو 8.175 وظيفة فقط، ما يعني أن نسبة الشغور في الادارات العامة تصل إلى 72 في المئة في حين أنها تصل في المؤسسات العامة إلى 56 في المئة وفي البلديات إلى 82 في المئة. أما النسبة الأكبر من الشغور فهي في وظائف الفئة الثانية، حيث تبلغ 80 في المئة. ولوحظ وجود فرق في أعداد المتعاقدين والأجراء المصرّح عنها من بعض الجهات المذكورة وتلك المتوافرة لدى المجلس والمستخلصة من المستندات المثبتة لديه والمودعة لديه وفقاً للأصول بحوالي 27.188، أبرزها في المديرية العامة للتعليم المهني والتقني والمديرية العامة للتربية ومجلس الجنوب والمركز التربوي للبحوث.

وفي هذا الاطار، أشار أستاذ السياسات والتحديث الاداري في الجامعة اللبنانية برهان الخطيب، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، إلى وجود مشكلة في ما يتعلّق بتحديد أعداد الموظفين، مع وجود اختلاف في الأرقام بين وزارة المالية ومجلس الخدمة المدنية الذي يتبنى عدد الموظفين الذين يدخلون إلى القطاع العام وفق الآليات القانونية. أما أرقام وزارة المالية فتشمل جميع الموظفين القانونيين وغير ذلك وهذا ما يبرر الفرق بين الجهتين خصوصاً وأن الوزارة لديها أعداد جميع الموظفين الذين تدفع لهم رواتبهم، وهناك حالات كثيرة منها عيّنت من خارج إطار مجلس الخدمة المدنية.

ووفقاً للخطيب، هناك نوعان من الموظفين؛ الذين يُعيّنهم مجلس الخدمة المدنية والذين يرفعون إلى مجلس الوزراء عندما يكون هناك خلاف بين الوزارة أو الادارة المعنية ومجلس الخدمة المدنية، وحينها يقرر مجلس الوزراء أنه خلافاً لرأي مجلس الخدمة تمت الموافقة على التعيينات، وبالتالي لا يدخل هؤلاء ضمن أرقام وإحصاءات مجلس الخدمة الذي غالباً لا يتضمن هذه الفئة من الموظفين، لافتاً في المقابل إلى أن أي موظف يعيّنه مجلس الخدمة يدخل في نطاق وزارة المالية لأنها الجهة المسؤولة عن دفع راتبه، بحيث أن كل نفقة لأي موظف يجب أن تمر من خلال الوزارة، وهذا ما يجعل هناك تبايناً في الأرقام لصالح وزارة المالية.

وعن ذكر المسح وجود فائض وشغور في الادارات، اعتبر الخطيب أن الشغور وعدم وجود الأعداد الكافية من الموظفين يعودان إلى الملاكات العامة التي يتم التعيين فيها بموجب مباريات عبر مجلس الخدمة المدنية، الذي وللأسف عطل دوره منذ العام 2016، حتى أن المباريات التي أُنجزت وأعلنت نتائجها لا تزال محجوزة لدى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي أدى إلى عدم ضخ الوزارات أو مدّها بالعاملين وتوسع حجم الشغور. أما الفائض، فسببه التعيينات التي حصلت خارج إطار مجلس الخدمة المدنية وما يُعرف بالمتعاقدين بجميع أشكالهم ومسمياتهم علماً أن رئاسة مجلس الوزراء تُذكر بصورة دائمة بأن أي تعاقد أو تعيين يجب أن يمر عبر مجلس الخدمة المدنية وبموجب امتحان أو مباراة. أما على صعيد المتعاقدين، فهناك متعاقدون قانونيون لكن العدد الأضخم منهم هم غير القانونيين وغير المتواجدين في الملاكات المحددة للادارات والمؤسسات العامة والبلديات. على سبيل المثال إذا كانت هناك حاجة الى 20 متعاقداً يُستعان بـ 100 أو أكثر تحت مسميات مختلفة من أجل حشو الادارة بالموظفين، وهؤلاء هم من يشكلون هذا الفائض بسبب عدم اتباع الآلية القانونية لتوظيفهم وبالتالي هناك شك في صفتهم القانونية.

وبحسب الخطيب، كان لافتاً عدد الموظفين الذين لا يملك مجلس الخدمة المدنية أي معلومات عنهم خصوصاً في وزارة الطاقة والمياه، وهذا يدلّ على أنهم لم يعينوا عن طريق المجلس والذي بحسب التقرير يبلغ عددهم 1630 (يتوزعون بين مؤسسة المياه التي أنشئت حديثاً ومؤسسة كهرباء لبنان)، وهم يأتون في إطار التوظيف السياسي والمحسوبية. من هنا، تبرز أهمية إعادة هيكلة الادارة العامة، خصوصاً أن هناك اليوم شغوراً في بعض الملاكات مقابل تضخم في العديد في ظل هيكليات قديمة جداً ووجود العديد من الوظائف التي أطاح بها التقدم التكنولوجي ولم تعد هناك حاجة اليها.

وعما إذا كان الرقم الذي استحوذت عليه وزارة التربية والتعليم العالي والبالغ 49.527 من إجمالي العدد المتوافر في الادارات العامة يُعدّ رقماً كبيراً وضخماً، أكد الخطيب أنه لا يستطيع الجزم، إذ لا بدّ من معرفة الحاجة الحقيقية والقدرة المالية، ومن دراسة قطاع التعليم بناءً على هذين العاملين لأنه يُعد من أكبر القطاعات بعد الأسلاك العسكرية ويستطيع أن يستحوذ على هذا العدد الكبير، وفي الوقت نفسه يُشكل أرضاً خصبة للحشو الوظيفي، مشدداً على مبدأ الكفاءة العلمية الذي يجب أن يكون المعيار الرئيس لدخول هؤلاء إلى هذا القطاع، لا سيما وأنه يعدّ الثروة الحقيقية التي يملكها لبنان.

وشكك الخطيب في أن يكون مجلس الخدمة المدنية قد حصل على الأرقام الحقيقية من الجهات التي طالها المسح، وخير دليل على ذلك وجود بعض المؤسسات والادارات التي لم تقدم أي مستند، معتبراً أن هذه الأرقام يجب أن تكون شفافة ومتوافرة على المواقع الالكترونية استناداً إلى حق الاطلاع على المعلومات (كأرقام وبيانات وليس معلومات شخصية)، وهذا هو دور مجلس الخدمة المدنية الذي يجب أن يرفع الصوت ضد من لم يلتزم بالافصاح عن عدد الموظفين لديه، لا سيما وأنه يمتلك الحصانة التي تخوّله ذلك كي يكون لديه الـDatabase الخاصة به بعدد الموظفين وتحديد من عُيّن بطريقة قانونية وغير قانونية. وهنا أيضاً يأتي دور التفتيش المركزي والأجهزة الرقابية وديوان المحاسبة التي يجب أن تقوم جميعها بدورها وأن تراقب بالفعل من يحضر من هؤلاء الموظفين إلى عملهم أو من هو في القطاع العام ويعمل في وظيفة أخرى. وعلى الرغم من أن الأجهزة الرقابية قد لا تملك العدد الكافي من الموظفين للقيام بهذه المهمة، إلا أن هذا لا يعفيها من تحمل مسؤولياتها في أن يكون لديها الرقم الحقيقي للموظفين في القطاع العام، لأن ذلك يُعد تقصيراً في المهم.

وختم الخطيب بالقول: “مهما كانت الامكانات أو الموارد السياحية والبيئية والنفطية والغازية إن وجدت، ستبقى عرضة للهدر والفساد إذا لم نبدأ بإصلاح الادارة لأننا نكون بذلك كمن يضع الماء في الغربال، وعليه تبقى الحاجة الملحة الى ضرورة البدء بالاصلاح أولاً”.

شارك المقال