بالأرقام… هكذا صنع العهد انهيار لبنان الاقتصادي

هدى علاء الدين

يستمر انهيار لبنان الاقتصادي والمالي من دون وجود أية نهاية واضحة له، حتى أن معالمه لا يمكن محوها أو التخلص من آثارها وانعكاساتها بسهولة. فصانعو هذا الانهيار على المدى السنوات الست الأخيرة، عملوا بجهد من دون أي كلل وملل على خلق ظروف اقتصادية سيئة بالتزامن مع معدلات إفلاس عالية ونسب فقر وبطالة مرتفعة وتضخم مفرط وانهيار للعملة الوطنية، ليصبح عهد لبنان الأخير “عهد الانهيار الاقتصادي والمالي” بلا أي منازع.

صورة لبنان التي تغيرت عنوةً منذ العام 2016 والتي بدأ العمل على تغييرها بصورة غير مباشرة منذ المكابرة في الاستمرار في الفراغ الرئاسي إلى حين انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية إثر “اتفاق معراب” الشهير، اكتملت ملامحها اليوم مع انتهاء هذا العهد الذي أتم واجباته اللاإصلاحية على أكمل وجه من خلال إغراق لبنان في أزمات مستعصية جعلت المؤشرات والأرقام كافة في مهب الانزلاق والهبوط إلى مستويات الانهيار الشامل والتام. فالصدمات الاقتصادية والخسائر المالية الفادحة التي تكبّدها لبنان خلال السنوات الست الأخيرة فاقت كل التوقعات ورسمت العديد من علامات الاستفهام حول الهروب المتعمد من كل الحلول التي كانت متوافرة لفرملة عجلة الانهيار الذي كان يمكن للبنان تجنبه لو أراد صانعوه ذلك. فوقع اللبنانيون أسرى الاحتكار والتهريب والفوضى والفساد والسوق السوداء والمضاربة وتُركت القطاعات كافة لمصيرها الأسود، وغرق لبنان في معدلات فقر وتضخم وانكماش غير مسبوقة، حتى شهد في نيسان العام 2021، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، خروجه من تقرير صندوق النقد الدولي حول “آفاق الاقتصاد العالمي” الذي أشار إلى أن التوقعات لسنوات 2021 – 2026 قد حذفت بسبب الدرجة العالية غير العادية لحالة عدم اليقين.

2016 – 2019: تفاؤل حذر وإصلاح مُغيّب

في قراءة سريعة للمرحلة الاقتصادية في بدايات العام 2016، يتبين أن الاصلاح كان المعبر الوحيد لبقاء الثقة بلبنان عبر إجراءات تُترجم إلى ازدهار اقتصادي وخلق فرص العمل وتقليل أوجه القصور وتعزيز الانتاجية والشفافية. إلا أن ذلك لم يمنع ميزان المدفوعات من تحقيق فائض قدره 1.2 مليار دولار في العام 2016، بعد عجز تراكمي وصل إلى 1.76 مليار، وهو أول فائض سنوي تحقق منذ العام 2010، بسبب عمليات الهندسة المالية لمصرف لبنان والتي اجتذبت تدفقات رأس المال ومكّنته من زيادة إجمالي احتياطياته الأجنبية بنسبة 11.1 في المئة. وفي نهاية العام، تجاوز إجمالي أصول المصارف 204 مليارات دولار، وازدادت ودائع المصارف بنسبة 8 في المئة مسجلة مستوى قياسياً جديداً وهو 172 مليار دولار بعد دخول حوالي 13 مليار دولار إضافية إلى القطاع المصرفي.

من جهة أخرى، بلغت نسبة العائد من القطاع السياحي 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، بعد أن ارتفع عدد السياح الوافدين بنسبة 11.2 في المئة ليصل إلى 1.69 مليون سائح. كذلك تمكن الاقتصاد اللبناني من تحقيق نمو سنوي في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي بنحو 2 في المئة، في حين اقتربت نسبة التضخم من الصفر في المئة. كلها عوامل أسهمت في الحفاظ على الاستقرار النقدي والابقاء على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، مدعوماً بموجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية التي بلغت مستوى قياسياً ناهز الـ41 مليار دولار في نهاية العام 2016.

وفي الوقت الذي كشفت فيه تقديرات البنك الدولي عن وجود 40 في المئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، مع تراوح نسبة البطالة بين 18 و20 في المئة، بدأ وضع المالية العامة والديون بالتدهور في العامين 2017 و2018 تزامناً مع إقرار سلسلة الرتب والرواتب وازدياد أعباء اللاجئين السوريين. وبحسب البنك الدولي، فقد ارتفع العجز المالي بمقدار 1.8 نقطة مئوية إلى 10 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، ليصل إلى رقمين للمرة الأولى منذ العام 2006. وفي العام 2018، وضعت الدول الدائنة والمانحة في مؤتمر “سيدر” شروطاً عديدة على لبنان من أجل إقراضه، كان أبرزها الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البنى التحتية وتمويل مشروعاتها، وإفساح المجال أمام الاستثمارات الخاصة، وعدم الاعتماد على الادارة العامة في مؤشر على قلة الثقة بالدولة، فضلاً عن اعتماد التمويل بالقروض الميسرة والاستثمار الخاص كخطوة أساسية مطلوبة للاستثمار في البنى التحتية وضرورة الاستثمار والانفاق في القطاعات الاجتماعية وتحديداً الصحة والتعليم، طالبةً وضع جدول زمني محدد للالتزام بعملية الاصلاح كشرط للحصول على التمويل. كان من المفترض حينها أن يكون مؤتمر “سيدر” جرس إنذار لضرورة البدء بعملية الاصلاح المؤجل، لكن البعض وجد فيه نقطة انطلاق للبدء بمسلسل الانهيار الذي كان تعطيل مفاعيله الحلقة الأولى منه، لتهيّأ لاحقاً الأرض الخصبة لحلقاته المتتالية.

2019 – 2022: ضربة الانهيار القاضية

دخل لبنان في العام 2019 منعطفاً خطيراً وهو العام الذي شكّل نقطة الصفر من أجل الانزلاق بلبنان نحو الهاوية، وأولى بشائر الانهيار تمثلت في انهيار قيمة الليرة الوطنية بدءاً من 1900 ليرة للدولار الواحد في تشرين الثاني 2019 وصولاً إلى 40.100 ليرة في تشرين الأول 2022، فضلاً عن انعدام الثقة بالقطاع المصرفي الذي شهد موجة حادة من الاضطرابات والاغلاق وتهريب الأموال خارج الحدود، بالتزامن مع التوقف عن الاقراض وفقدان قدرته على اجتذاب الودائع، والتقنين الحاد في دفع الودائع الدولارية التي خضعت لعدة أسعار صرف. اضافة الى ذلك، إعلان الحكومة في شهر آذار 2019 عدم سداد ديونها من اليوروبوند ليدخل لبنان للمرة الأولى نادي الدول المتخلفة عن الدفع. وفي حين انخفض الناتج المحلي الاجمالي بسبب حالة عدم اليقين العالية بوتيرة غير عادية من حوالي 55 مليار دولار في العام 2018 إلى 18.077 مليار دولار في العام 2021، تراجع أيضاً الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي للفرد بنسبة 37.1 في المئة. كذلك ارتفعت نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي الى 272 في المئة في العام 2021، مقارنة مع 147 في المئة في العام 2016. كما أدّت الأزمة إلى قفز معدل التضخم إلى مستوى قياسي مرتفع بلغ 224.39 في المئة نهاية العام 2021، وإلى تدمير قاعدة الاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان من حوالي 41 مليار دولار إلى 10 مليارات دولار.

وفي العام 2021، أنهى لبنان مرحلةً طويلة من سياسة الدعم انعكست بصورة مدوية على أسعار المحروقات والأدوية وربطة الخبز على وقع طوابير الذل التي رافقت اللبنانيين في يومياتهم على مدى أشهر طويلة. فارتفعت صفيحة البنزين في ست سنوات من حوالي 20000 ليرة إلى أكثر من 700000 ليرة، لترتفع معها أجرة النقل من 2000 ليرة إلى 50000 ليرة، والمازوت ارتفع من 10.400 ليرة إلى 851000 ليرة وقارورة الغاز من 10.600 ليرة إلى 416000 ليرة. أما ربطة الخبز فارتفعت من 1500 ليرة إلى 21000 ليرة، في حين شهدت أسعار الأدوية ارتفاعاً وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء. ومع فقدان الليرة اللبنانية لأكثر من 95 في المئة من قيمتها، أصبحت الأسرة اللبنانية تحتاج إلى ما بين 20 و26 مليون ليرة لتغطية كلفة المعيشة وغلاء الأسعار، بعدما كان الحدّ الأدنى للأجور مع بداية العهد 680 ألف ليرة، ليطال بذلك الفقر حوالي 74 في المئة من مجموع سكان لبنان، في حين وصلت نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 في المئة. وعلى وقع العتمة الشاملة مع صفر كهرباء، انتعش سوق المولدات على حساب جيب المواطن، قبل أن تُبادر وزارة الطاقة إلى رفع تعرفة الكهرباء لتصل إلى 10 سنتات لأول 100 كيلوواط ساعة و27 سنتاً لكل كيلوواط ساعة يزيد عن الـ100 ولكل التعرفات الأخرى، أسوة بوزارة الاتصالات التي رفعت تعرفة الاتصالات والانترنت عبر قسمة الفاتورة الأساسية على 3.3 ومن ثم ضربها بسعر دولار منصة “صيرفة”.

ستة أعوام كانت كفيلة بالقضاء على بنية الاقتصاد اللبناني الذي لم يستطع الصمود أمام أدوات الانهيار الذي وُصف بـ “انهيار القرن”، فصنّف كأحد أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. لبنان الذي اعتبر دولة فاشلة وبؤرة جوع ساخنة لم يشفع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي وإقرار الموازنة العامة وترسيم الحدود البحرية في رفع بصمات الانهيار عنه. فمن سقوط القطاع المصرفي وانهيار الليرة اللبنانية والقضاء على الطبقة الوسطى وانكماش الاقتصاد وانعدام النمو والفوضى المالية، وصولاً إلى الخروج عن الخارطة العربية والدولية ومن أسواقها المالية وغياب الاستثمار والتمنع عن إجراء الاصلاحات، أورث هذا العهد اللبنانيين إرثاً يفوق قدرتهم وطاقتهم سيحتاجون إلى سنوات طويلة كي يُمحى من ذاكرتهم إن استطاعوا ذلك.

شارك المقال