لا رئيس ولا حاكم… الدولار بـ ٥ أصفار

ليندا مشلب
ليندا مشلب

تخطو مالية الدولة في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الخطوة الأولى نحو تغيير سعر الصرف الرسمي من باب الدولار الجمركي ليتبعه على مراحل في تواقيت متقاربة دولار اللولار ودولار السعر الرسمي لليرة اللبنانية، ومعها ستدخل البلاد مرحلة جديدة من الغلاء تصفها مراجع مالية بـ “المخيفة” والتي سيتبدل فيها كل شيء، وتؤكد أن لبنان يهوي باتجاه الدولرة الشاملة.

ومع حاكمية ستنتهي ولايتها بعد سبعة أشهر يصبح المشهد أكثر قساوة. اذ يرى مرجع مالي ومصرفي رفيع لموقع “لبنان الكبير” أن أي برنامج مالي طويل الأمد يجب أن يرافقه ناظم ثابت regulator ، فماذا لو لم يكن هناك رئيس جمهورية بعد يعيد الانتظام الى المؤسسات الدستورية الثلاث وخصوصاً أن هذا الناظم سيدير أزمة مستشرسة وليس أموراً عادية ومشكلات مالية روتينية، من سيجرؤ على أخذ قرارات جذرية؟ ومن سيتمكن من اجتراح حلول وهو مقطع اليدين؟ ومن سيقبل بأن يستكمل سياسة رياض سلامة؟ كلها أسئلة كبيرة بدأت تطرح في المجالس الخاصة، اذ أصبح من الصعب جداً أن يسير الحاكم الجديد على النمط نفسه الذي انتهجه سلامة على مدى ثلاثين عاماً، فهذا النمط انتهى، وهذه النقطة أشار اليها البنك الدولي بصراحة عندما تحدث عن امكان هيكلة المصارف واعادة تكوين قطاع مصرفي في ظل أزمة حادة على هذا النحو وحكومة غير موجودة ولا رئيس للجمهورية وحاكم للمصرف المركزي تنتهي ولايته بعد سبعة أشهر. فأين حوكمة الدولة؟

الأفق مسدود من كل اتجاه ولم يعد هناك باب للدخول منه، فهذه الحكومة لا تستطيع التعيين وتعديل قانون النقد والتسليف في مجلس النواب من أجل التمديد لولاية الحاكم من ٦ الى ٩ سنوات لمرة واحدة مع ترك الحق للحكومة الجديدة تعيين بديل عنه، خيار دونه عقبات كبيرة على رأسها رفض عدة مكونات التمديد للحاكم الذي تحمّله مسؤولية الأزمة المالية والنقدية واعتبارها هذا الأمر معركة حياة أو موت، فما العمل؟

ويتوقع المرجع أن يستمر ارتفاع الدولار ببطء مدة سبعة أشهر، وبقوة بعدها اذا لم تحل الأزمة، فالحاكم الحالي يمسك بخيوط اللعبة بحرفية ويتقن أسرارها أما الحاكم الجديد فسيختار أن يطفئ محرك السيارة لئلا يصرف آخر وقودها في طريق لا أفق لها.

ويعتبر المرجع أن لبنان يسير حالياً بقوة الدفع by inertia، بفعل الاغتراب وقدرة الخارج على الانتاج لإمداد الداخل، والزيارات التي لن تنقطع من سياح اعتادوا على وجهة لبنان. لكن هذا الحال لا يمكن الركون اليه طويلاً على الرغم من القرار بعدم ترك البلد الى الأنفاس الأخيرة. الألم مطلوب لكن الموت ممنوع والتداول بـ “الفراطة” مستمر بين الناس الذين يصرفون الدولار لحاجاتهم اليومية وليس مبالغ كبيرة يمكن أن تؤثر على احتياط العملات الأجنبية، أما التضخم فهو باق لأجل طويل لأنه مرتبط بسعر الصرف للعملة المحلية، اما اذا قارناه مع الدولار فنستطيع القول انه “مركلج” لأنه يرتفع محلياً وعالمياً لذلك أصبح المعيار هو الدخل بالدولار الأميركي، فقد أصبحنا في اقتصاد مدولر غير رسمي، لأن الدولرة الرسمية أمامها عائق كبير وهو السيادة… فالعملة اللبنانية لم تعد عملة ادخار ولا اقراض ولا اقتراض حتى جباية الرسوم والضرائب تخضع لـcounter balance value عن طريق احتسابها الفوري على سعر “صيرفة”.

الأرقام التي نشهدها حالياً للدولار لن يعود الى ما دونها، واذا انتخبنا غداً أو في جلسة الأول من كانون الأول رئيساً وشكلنا في الثاني منه حكومة وأعددنا مشروعاً محكماً لانقاذ لبنان فسنحتاج الى ما يفوق الخمس سنوات للخروج من هذه الأزمة ولن نخرج. واذا أدخلنا كل عام ١٢ مليار دولار لنسد حاجاتنا فكيف سنحل فقدان الستين بالمئة من جنى عمر الناس؟ وكيف سنحل مشكلة القطاع المصرفي، وبأي وسيلة سنقنع من تخلفنا عن السداد له بأن يعيد الكرة ويقرضنا حتى لو أعدنا له حقوقه كاملة؟ فنحن فقدنا الثقة بنا وهذا ما لا نريد أن نصدقه ومستمرون بالضحك على أنفسنا وعلى بعضنا. ذاهبون الى الأسوأ وللتذكير فإن الدولار قبل الـ١٩٩٠ ارتفع من ٣ ليرات الى ألفين و٨٠٠، أي أكثر من ٩٠٠ مرة، ودولارنا اليوم حتى الآن ارتفع ٢٦ مرة مقارنة مع الـ٩٠٠، آنذاك أتى مشروع كبير اسمه رفيق الحريري ونقل الأزمة من دفة الى دفة، فهل من مشروع شبيه له اليوم؟

وما يجعل الحلول أكثر صعوبة هو الاختلاف العميق والشديد في ادارة البلد ايديولوجياً، فلكل مكون حزبي وسياسي رؤيته ومطالبه وسياسته بالنظرة الى الدولة والنظام، وهذا الاختلاف في الفكر السياسي والنظامي للبلد ليس سهلاً توحيده وقد أثبتت المحطات التاريخية والممارسات عقمه في مراحل عدة.

اذاً وبلغة الـsystem أصبح لبنان بأمس الحاجة الى قوة ناظمة، تعجز كل مكوناته عن توفيرها حتى “حزب الله” الأقوى بينها، منذ ١٢عاماً كانت هذه القوة هي السين السين ولم يتمكن أحد من الحلول مكانها.

وما يزيد الطين بلة أننا في ظل منطقة مهتزة لن تسمح للبنان بأن يستقل عنها ويشكل قوته الذاتية التي تمكنه من اعادة الانتظام، وأهم دولة لامتداده السياسي والجغرافي وعمقه الطبيعي هي سوريا غير المستقرة، الجالس على خاصرتها، يتحمل كل أوجاعها ويعيش اشتراكات أمراضها، وامتداد سوريا هو العراق الكبير غير المستقر أيضاً فكيف سنستقر نحن؟

أن لا ندخل في الفوضى الأمنية ونبقى في الفوضى المالية والنقدية أصبح أمل الجميع بعد الاستسلام للواقع الراهن، وتقطيع المرحلة بأقل الخسائر هو الشر الذي لا بد منه، فنحن صغار ولا نملك القدرة على اللعب خارج الحدود، ولا نسكر بأحجامنا لأننا محكومون بالانتظار القاتل والحل شئنا أم ابينا لن يأتي الا بمعادلة الـ أ – أ بدل السين السين. فبين الفوضى التي تدب في البلدان المؤثرة بنا والفوضى التي تريدها البلدان المؤثرة علينا، لم يعد أمامنا سوى الصلاة لتحسين موقعنا على سلم الأولويات لاستعجال التسوية.

عندما تلعب الدول الكبرى وتأخذ القرار “نرتاح”.

شارك المقال