ما أغلى من الدولار إلا “صيرفة”!

هدى علاء الدين

تصدرت منصة “صيرفة” المشهد المالي والنقدي في الآونة الأخيرة حتى أصبحت من يوميات المواطن اللبناني والروتينية. وعلى الرغم من توقف عمليات المنصة هذا الأسبوع في المصارف، ينتظر المستفيدون من هذه العمليات إعادة فتحها ولو لدقائق من أجل الافادة من فارق شراء الـ 400 دولار على المنصة بسعر 30800 ليرة، وبيعها في السوق السوداء على سعر صرف وصل إلى عتبة الـ 50000، ما يعني تحقيق هامش ربح يتخطى الـ 4.5 ملايين ليرة شهرياً. وفي الوقت الذي تكثر فيه الاجتهادات حول الغاية من إنشاء مصرف لبنان المنصة، يُشير خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد الدكتور محمد فحيلي في حديث لموقع “لبنان الكبير”، إلى أن منصة “صيرفة” لن تُستخدم من أجل السيطرة على سعر صرف الدولار بل هي كل ما تبقى لدى مصرف لبنان لادارة الاقتصاد الوطني، معتبراً أن المنصة هي من أهم الأدوات المتوافرة بأيدي السلطة النقدية اليوم وهي الأكثر تأثيراً في الاقتصاد لادارة سعر صرف الدولار (وهذا لا يعني بالضرورة تخفيضه) والحد من الضغوط التضخمية، لا سيما وأنها حتى هذه اللحظة هي مخصصة لعرض (لبيع) الدولار ضمن ضوابط معينة، وبسعر مدعوم من مصرف لبنان وليست منصة للتداول الحر (أي عرض وطلب من دون قيود).

وبحسب فحيلي، فإن تعميم مصرف لبنان الأساس رقم 150 والذي بموجبه أسس لفتح حسابات بالدولار الفريش محررة من كل القيود شرط أن تكون الأموال مصدرها تحاويل من الخارج و/أو إيداعات نقدية، والتعميم الأساس رقم 151 الذي وضع آلية للسحوبات الاستثنائية من الحسابات بالعملة الأجنبية المكونة قبل نيسان 2020، كانا من الأسباب الموجبة وراء إنشاء منصة “صيرفة”، موضحاً أنه على الرغم من كل سلبيات هذين التعميمين كانت لهما تأثيرات إيجابية عديدة لناحية عودة الدماء إلى عروق القطاع المصرفي من خلال الحسابات الفريش وتنشيط التحويلات من وإلى خارج لبنان بعد أن توقفت نهائياً بسبب التعثر غير المنظم في آذار 2020. كما أن التعميم 151 أسس لقواعد إشتباك جديدة بين المصارف والمودعين سهلت ووفرت الوصول إلى أرصدة الحسابات المصرفية التي كان أصحابها قد فقدوا الأمل في الوصول إليها، ومكَّنتهم من توظيفها في تمويل فواتير الاستهلاك للأفراد والمصاريف التشغيلية (من رواتب وأجور وغيرها) للمؤسسات، فضلاً عن السماح للمؤسسات بإستعمال أرصدتها لدفع الرواتب والأجور الأمر الذي ساعد في التخفيف من أعباء هذه المصاريف التشغيلية وأسهم في مساعدة المستهلك ومؤسسات القطاع الخاص على الصمود في وجه الأزمات الاقتصادية والمعيشية ولكنه جاء على حساب القطاع العام لأن إيرادات القطاع الخاص كانت تواكب سعر صرف الدولار في السوق الموازية، في حين إيرادات القطاع العام (من ضرائب ورسوم) بقيت على سعر الصرف الرسمي، أي 1500 ليرة للدولار الواحد.

وفي الاطار عينه، يرى فحيلي أن إصدار التعميم الأساس 161 (الذي بات يُعرف اليوم بمنصة “صيرفة”)، جاء بمثابة تأكيد أن الأمر سوف يكون دائماً لـ “المركزي” في إدارة الاقتصاد الوطني حتى تستيقظ مكونات الطبقة السياسية وتُطلق مسيرة الاصلاح المطلوبة، وكأن مصرف لبنان إستوعب خفايا السوق الموازية وقواعد إشتباك المحتكرين والمضاربين في الأسواق وقرر توظيف ما توافر لديه من إمكانات لتوفير السيولة لتسديد فواتير المصاريف التشغيلية للدولة اللبنانية مع الحد من الضغوط التضخمية وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار في سعر الصرف وفي أسعار السلع الاستهلاكية، لافتاً إلى أن الأسباب الموجبة وراء هذه الخطوة كانت خروج لبنان من الأسواق المالية وانعدام الايرادات، بحيث بات السبيل الوحيد لتمويل نفقات الدولة هو طباعة العملة ليُصبح اهتمام “المركزي” معالجة الضغوط التضخمية.

أنتجت الضبابية المتعمدة ثغرات في إحتساب الكلفة الحقيقية للنشاطات الاقتصادية وفي إحتساب النمو أو الانكماش الاقتصادي، حتى تحوّلت إلى غموض نتيجة إنعدام ثقة المواطن بالنظام المالي وغياب الرقابة، ما أدى إلى إستحالة إحتساب حجم الكتلة النقدية التي تساهم في دوران العجلة الاقتصادية خصوصاً أن من الصعب معرفة كمية الأوراق النقدية المخزنة في الصناديق الحديدية في المنازل والمكاتب، والكمية التي توظف في تمويل النشاطات الاقتصادية. ووفقاً لفحيلي، فإن طباعة العملة يسهم في إنتاج ضغوط تضخمية إذا تم توظيف مجملها في تحريك العجلة الاقتصادية من خلال تفعيل الاستهلاك (لا الانتاج) ولهذا يجب عدم إحتساب الكمية المخزنة كجزء من الكتلة النقدية عند دراسة وتقويم التأثيرات التضخمية لطباعة العملة. ومن أجل ذلك يضطر مصرف لبنان، من وقت إلى آخر، للجوء إلى إستهداف الأوراق النقدية المخزنة بالليرة عندما يرفع الضوابط عن طلب الدولار عبر منصة “صيرفة” (لحاملي الأوراق النقدية بالليرة من دون حدود)، والمخزنة بالدولار الفريش من خلال إنتاج سعر صرف مغرٍ للدولار في السوق الموازية. وعليه، يجب إبقاء منصة “صيرفة” وتوظيفها حصرياً لصرف الرواتب والأجور لأن فتحها أمام حاملي الأوراق النقدية من دون حدود يشجع على التخزين والمضاربة وإحداث إضطرابات في سعر الصرف عوضاً عن التقلبات في سعر الصرف التي هي من ضمن التوقعات وفي معظم الأوقات تكون تحت السيطرة.

وعن احتمال ارتفاع سعر منصة “صيرفة” من جديد، يقول فحيلي: “إذا أغلقت الأبواب جميعها أمام المصرف المركزي في ظل اجتماعات لا تُنتج قرارات فاعلة وضغوط سياسية مفاجئة، فقد يتجه مصرف لبنان إلى رفع سعر منصة صيرفة إلى 42000 ومعاودة فتحها لأيام معدودة من أجل إجراء عمليات التبادل من دون سقوف”. ويشير فحيلي إلى أن مصرف لبنان هو الشاري الرئيس للدولار من السوق السوداء. فـ “المركزي” يعرض الدولار من خلال منصة “صيرفة” على سعر 38000، ويطلبه في السوق الموازية ليكون بذلك اللاعب الأكبر في السوق كونه يحمل الكمّ الأكبر من الأوراق النقدية. من هنا، فإن العرض والطلب يوظف ليس للتأثير على سعر صرف الدولار بقدر ما هو لضبط التضخم وتكريس الاستقرار النقدي ولو حصل ذلك على سعر صرف مرتفع نسبياً. فما بين الحد من الضغوط التضخمية ودفع رواتب القطاع العام ولجم المضاربين، يبقى سعر صرف الدولار القاسم المشترك بين هذه المحاور الثلاثة التي تشكل الهمّ المركزي الرئيس. وانطلاقاً من هنا يحظى ملف الدولار اليوم بأهمية تفوق كل الملفات الأخرى أبرزها زيارة الوفد القضائي الأوروبي للتحقيق بتهمة تبييض الأموال ضد الحاكم وشقيقه، وزيارة الوفد القضائي الفرنسي الذي يتابع مجرى الأمور في التحقيق بتفجير مرفأ بيروت واجتماعات المجلس النيابي ومجلس الوزراء.

ويختم فحيلي بالقول: “الكل يعلم بأن فشل السلطة السياسية الحاكمة في إقرار الاصلاحات وتنفيذها، وإعطاء مصرف لبنان الوكالة الحصرية في إدارة الأزمة والاقتصاد قد يكون ساعد على منع الانزلاق الحاد والعميق في تداعيات الأزمة، ولكنه لن ينقذ الاقتصاد الوطني ويدفعه بإتجاه التعافي والنمو، مع بقاء الحلول المستدامة الغائب الأكبر عن الساحة الوطنية”.

شارك المقال