الخيارات الانتحارية… الدولار بـ 6 أصفار!

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

الارتفاع الصاروخي لسعر الدولار لم يشل القطاعات الانتاجية وعمل المؤسسات وحسب، بل الأخطر أنه يشل عقول الناس عن التفكير، ويجعل رؤوسهم تعمل في إتجاه واحد، لاجراء حسابات تجعلهم على قيد الحياة، فهم غيروا من نمط حياتهم، مع الانهيارات المتتالية والصفعات التي يتلقونها كل يوم، فلا أحد يهتم بمعاناتهم لا بل إن من يجب عليهم نشلهم من الحاجة والعوز رموهم في جهنم ولا يسألون، ويحملونهم عبء صفقاتهم وتمرير مصالحهم وتقاسم ثرواتهم، ولا يبدو أن هناك مسؤولاً واحداً لديه ضمير ليكف عن التفرج ويتخذ قراراً لصالح المواطن “الغلبان”.

الواضح أن كل الطبقة الحاكمة بموالاتها ومعاراضاتها لا تعنيها معاناة اللبنانيين، تتفرج من أبراجها العالية على المأساة التي لم يشهد تاريخ لبنان مثلها حتى في مجاعة الحرب العالمية الأولى، غير مبالية بإيجاد حلول أو التفتيش عنها لانقاذ ما تبقى، لكنها تتفق على تمرير قرارات تناسبها وصرف الأموال اللازمة لها مما تبقى، وغداً ستسيّل الذهب وتتقاسم هذه الثروة بعد ضمان بقائها في السلطة والحفاظ على حكم الترويكا، لكن ذلك لم يعد ممكناً بعد كل ما جرى، وبعدما أوصلت السياسات الاقتصادية والمالية لبنان الى الجحيم.

أما على المستوى السياسي، فالواضح أن لا ارادة لدى أي فريق سياسي للتنازل ووقف عض الأصابع وتبادل الضغوط للالتقاء من أجل تسيير الأمور والاتفاق على ما يمكن أن يعطي بارقة أمل تنتشل اللبنانيين من حالة اليأس وتضع حداً للخيارات الانتحارية.

منذ اندلاع ثورة 17 تشرين، حذر خبراء من انفلات سعر الدولار وعدم وجود سقف لارتفاعاته، فقد أفلس البلد على يد السلطة الحاكمة بفعل سياساتها المتبعة واحناء الرأس للدويلة، والدليل أن قرارات مصرف لبنان التي كانت تصدر من التعميم 158 الى “صيرفة” الى حسابات الفريش، هي مجرد هندسة لحماية المصارف التي سرقت أموال المودعين علناً.

والحل لن يكون بتقديم مساعدات لنا أو دين من الخارج، فطالما أن المنظومة الحاكمة موجودة في السلطة وتعمل على انتاج نفسها من جديد من خلال حوار أو اتفاق خارجي أو داخلي لن تحل الأزمات في لبنان، اذ أن السارقين أنفسهم سيعودون ولو بوجوه أخرى، اضافة الى أن “حزب الله” يبحث عن تسوية تبقيه صاحب القرار ودويلته قائمة، ويتفق مع من يروّج للقول ان الأزمة ليست اقتصادية ومالية بل سياسية، فاذا حلت في السياسة واتفقتم معي على الرئيس المقبل والحكومة فان الأمور ستسير في اتجاهها الصحيح. والواضح أن الحل السياسي مستبعد والاتفاق غير وارد،
مما يؤشر الى أن لعبة الدولار ستستمر وقد يتصاعد بوتيرة عالية حتى أن البعض يتحدث عن ستة أصفار.

من هنا، لا يبدو أن الحل الحقيقي ممكن بالتسويات بل بالتغيير، وهو أمر شبه مستحيل أيضاً خصوصاً وأن ميزان القوى لا يصب في صالح من يسعون اليه، الا إن حصلت ثورة حقيقية على كل المنظومة التي تتسبب يوماً بعد يوم بانهيارات جديدة وترتكب جرائم بحق الشعب اللبناني وهي تمسك برقبته من خلال سياسات النهب والتهريب والاثراء غير المشروع والتسلط وتدمير مؤسسات الدولة من دون رادع أو وزاع ومخالفة الدستور وجعله مجرد غطاء لجرائمها على كل المستويات.

يبدو أن انتظارات اللبنانيين للحلول ستطول على الرغم من ايجابيات المشهد الاقليمي، لكن ما يحصل على الأرض في لبنان مخيف ومرعب خصوصاً وأن “حزب الله” حوّله لصالحه وبدا كالحمل الوديع بالدعوة الى حوار داخلي، والترويج عبر محلليه الى قبول الخارج بمرشحه الذي لا يحمل برنامجاً ولا خطة للانقاذ!

ومع الارتفاع المستمر لسعر الدولار وهباته هناك حديث عن طبع ورقتي الـ500 ألف والمليون ليرة مما يعني مزيداً من التضخم، وعدم قدرة اللبنانيين على تأمين لقمة العيش وليس الدواء أو مستلزمات الحياة الأخرى من تعليم وتنقل وغيرها من الأمور الحيوية وحسب، فالطبقة المتوسطة انحلت خلال السنوات الثلاث الماضية، والطبقة الفقيرة التي صارت تشكل حوالي 85% من الشعب اللبناني ستزداد فقراً وتسقط في الهاوية السابعة ولن يكون بمقدروها تسديد الضرائب ولا فواتير الهواتف والكهرباء والخدمات الأخرى والرسوم المتوجبة.

الطريق الى خفض سعر الدولار لا يتم عبر “صيرفة” لافادة مستزلمين، فهناك تجارب كثيرة في العالم اتخذت فيها تدابير فاعلة لخفض سعر الدولار مقابل العملات الوطنية المحلية في بلدان عانت من أزمات مالية ووضعت خططاً للانقاذ بنيت على اجراءات عملية من بينها محاربة الفساد والتوظيف بناء على الكفاءة وليس استزلاماً لزعيم، والمداورة في المراكز الوظيفية، واعتماد الشفافية في عرض الوقائع المالية واستخدام البشر وليس تشجيعهم على الهجرة.

لم تحل “صيرفة” مشكلة صعود سعر الدولار ولم يوقف هذا الاجراء أوجاع اللبنانيين بل كان إبرة مخدر زال مفعولها مباشرة، والناس فقدوا ثقتهم بالمصارف التي لن تكون لديها القدرة على استرداد هذه الثقة الا بقرارات جريئة أولها حل مشكلة المودعين واعادة أموالهم ضمن خطة واضحة. كما أن طبع المزيد من الليرات لضخها في السوق لن يعيد لها قيمتها، والأهم طبعا هو أن الفراغ السياسي القائم، الذي كما يبدو خيار الجميع على الرغم من التبجح بالدعوة الى سده في بعبدا وفي المراكز الشاغرة حيث تحصل تعيينات وفقاً للمحاصصات والمساومات مع الحكومة المستقيلة وبعيداً عن الشفافية، سيجعل الليرة تنهار أكثر فأكثر، والافلاس الذي لم يكن يصدق أحد أنه سيحصل يصبح تحصيلاً حاصلاً.

شارك المقال