مسؤولو الظلمة أفلسوا البلد

المحرر الاقتصادي

هو ملف “إصلاح قطاع الكهرباء” المهترئ الذي يتأبطه كل مسؤول أجنبي يزور لبنان ويدور به على كل من يلتقيهم، فيما قصة إبريق الزيت نفسها التي بات كل لبناني يحفظها عن ظهر قلب؛ “تقنين قاسٍ” وتوقف معامل عن الإنتاج بسبب “النقص الحاد في مادة الفيول”.
حين زار نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فريد بلحاج لبنان في بدايات حزيران الحالي، فسّر لمن التقاهم من المسؤولين الذين يفترض بهم أن يدركوا أسباب الأزمة التي يعانيها لبنان، أن الكهرباء هي السبب الجوهري للأزمة.
وهي ليست المرة الأولى التي يحذر فيها مسؤول البنك الدولي، كما غيره من مسؤولي صندوق النقد الدولي، من تفاقم مشكلة الكهرباء وتداعياتها على المالية العامة. كمٌّ لا يحصى من النصائح، ثم التحذيرات بدئ إطلاقها منذ العام 2012 مفادها أنه في حال بقي قطاع الكهرباء من دون إصلاح فسيفلس لبنان. لكن صدى هذه التحذيرات لم يلقَ آذاناً صاغية لدى من كانوا مسؤولين عن إدارة هذا القطاع لسنوات، من “التيار الوطني الحر” الذين تعاقبوا على تولي حقيبة الطاقة متسببين في المقابل بتراكم نصف الدين العام.
ونُقل أن بلحاج كرر أثناء لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون، استعداد البنك الدولي لتوفير مبالغ تخصص لإصلاح قطاع الكهرباء، شرط وجود حكومة تعمل فور تشكيلها على بدء تنفيذ الورقة الإصلاحية المطلوبة منها، ومن ضمنها تشكيل هيئة ناظمة للقطاع.
واستغربت مصادر متابعة لهذا الملف أن يكون البحث في حل وضع الكهرباء في إطار خيارين فقط بين دعم القطاع من أموال المودعين في مصرف لبنان، في إشارة منها الى سلفة الـ200 مليون دولار التي وافق رئيس الجمهورية ميشال عون عليها، أو العتمة. وقالت إن هناك حلولاً أخرى تساعد في إعادة بناء البنية التحتية لقطاع الكهرباء والسير على طريق التعافي، بدءاً من تطبيق الاصلاحات وصولاً الى الاتفاق على برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي.

تحويلات ترهق الموازنة
يعتبر قطاع الكهرباء المسؤول الأول عن الأزمة النقدية والمالية والمصرفية التي يمر بها لبنان اليوم. فعشرات المليارات من العملة الصعبة دفعت على الكهرباء لتبقى الظلمة هي المسيطرة.
في تقريره الأخير الذي حمل عنوان “لبنان يغرق”، قال البنك الدولي إن قطاع الكهرباء يعاني منذ عشرات السنين من عجز مالي يتطلب تحويلات سنوية من الموازنة بين مليار دولار ومليارين، وأنه في عملية حسابية بسيطة يمكن الاستنتاج أن المبالغ المتراكمة على مؤسسة كهرباء لبنان بلغت حتى العام 2020 ما قيمته 40 مليار دولار وهو ما يمثل حصة مهمة من الدين العام الإجمالي. علماً أن أرقام وزارة المالية أظهرت أن الرقم وصل إلى 44.2 مليار دولار، وهو يمثل مجموع التحويلات السنوية لدعم مؤسسة كهرباء لبنان مضافاً إلى أرصدتها السنوية تكلفة خدمة المبالغ المحوّلة. كما أظهرت أرقام وزارة المالية أن التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان بلغت في كانون الأول من العام 2020، ما قيمته سنوياً 923.3 مليون دولار وبتراجع نسبته 38.6 في المئة عن الفترة نفسها من العام 2019 نتيجة الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية.
هي أرقام صحيحة ودقيقة من مراجع رسمية، إلا أن الوزير جبران باسيل لا يصدقها. فهو قال في مؤتمر صحافي له العام الماضي أن “خسارة الكهرباء كبيرة ولكن الأرقام التي يتمّ تداولها لتحميلنا المسؤولية عن الانهيار كاذبة”.

لاشك أن مؤسسة كهرباء لبنان تفرض عبئاً كبيراً على المالية العامة، إذ يشكل عجزها حوالي 30 في المئة من عجز الموازنة. وقد بلغ متوسط التحويلات إليها ما نسبته 3.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بين 2008 و2017، أي حين تولى وزراء “التيار الوطني الحر” حقيبة الطاقة. وفي ذروة التحويلات في 2012 و2013، حوّلت الحكومة حوالي ملياري دولار سنوياً إلى “كهرباء لبنان”، جرى سداد هذه المبالغ من خلال الاقتراض، وهو الأمر الذي جعل قطاع الكهرباء عاملاً رئيسياً من العوامل التي تزيد من عبء الدين العام.
ونظراً للأثر الكبير الذي يتركه قطاع الطاقة على الاقتصاد، التزمت حكومة الرئيس سعد الحريري خلال مؤتمر “سيدر” بإجراء إصلاحات مهمة في هذا القطاع من خلال تطبيق حزمة من التدابير من بينها تعزيز توليد الطاقة عبر بناء محطات توليد جديدة بالشراكة مع القطاع الخاص وبناء مرافق للطاقة الضوئية وطاقة الرياح في إطار ترتيبات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وخفض هيكل تكلفة توليد الطاقة من خلال بناء البنية التحتية للغاز الطبيعي المسال مثلاً، وتعديل التعرفة للحد من الخسائر المالية لمؤسسة كهرباء لبنان.
هذا وسجل إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان تراجعاً كبيراً بلغت نسبته 19 في المئة في الأشهر الأحد عشر من العام 2020، مع توقعات بالمزيد من انقطاع في التيار الكهربائي نتيجة التأخير في التحويل إلى المؤسسة.
ويعتبر عدم توافر الكهرباء ثاني عقبة أمام نمو القطاع الخاص بعد عدم الاستقرار السياسي، كون كل الشركات تقريباً تلجأ إلى المولدات الخاصة وبتكلفة إضافية كبيرة.
وفي المقابل، سجلت ايرادات مؤسسة كهرباء لبنان تراجعاً لأسباب عديدة منها تزايد خسائر التحصيل بنسبة 20 في المئة وتراجع التدفقات النقدية للمؤسسة بنسبة 50 في المئة في 2020، وذلك في ظل عدم تصحيح التعرفة التي لم تتغير منذ العام 1994 حين حددت بـ9.5 سنتات لكل كليوواط واحد تغطي ما نسبته 45 في المئة فقط من النفقات التشغيلية.
في تقريره، أطلق البنك الدولي تحذيراً حض فيه المسؤولين في لبنان على “التحرك بشكل طارئ لمعالجة مشكلات القطاع وذلك منعاً للانهيار الكامل في المستقبل القريب. وعلى المدى القريب، هناك حاجة لمعالجة النقص الذي تعانيه مؤسسة كهرباء لبنان على صعيد التدفقات النقدية تفادياً للمزيد من انقطاع في التيار الكهربائي”.
لم يكن البنك الدولي الوحيد الذي حذّر لبنان من مغبة عدم اصلاح الكهرباء وتداعيات هذا الأمر على الاقتصاد. فصندوق النقد الدولي كان مبادِراً أيضاً في هذا الاتجاه. وهو وضع ورقة في تشرين الأول من العام 2019 حول تداعيات عدم إصلاح القطاع “غير الفاعل” والذي “يفرض تكلفة اجتماعية واقتصادية باهظة”. كما أن مسؤولاً في الصندوق قال حين كان لبنان يتفاوض مع الصندوق على أمل الحصول على برنامج تمويلي، أن “إصلاح الكهرباء هو أحد الخطوات الرئيسية لإعادة توازن الاقتصاد اللبناني”، وأن العمل على إصلاحها سوف يعتبر تحسناً رمزياً كبيراً من جانب لبنان على الطريق الإصلاحي الشامل، وإلا “لن يكون هناك برنامج قروض.” وفي المعلومات أن صندوق النقد الدولي كان طلب التدقيق في حسابات مؤسسة كهرباء لبنان لتحديد الخسائر التي يجب أن تتناول مسألة تغير سعر الصرف بعدما خسرت العملة المحلية حوالي 90 في المئة من قيمتها. كما يطالب الصندوق بوجوب وقف دعم مؤسسة كهرباء لبنان لوقف النزيف في الخزينة.
ومما تقدم، ليس مستغرباً أن يكون إصلاح الكهرباء بنداً أول من المبادرة الفرنسية على طريق إعادة إطلاق الاقتصاد، والذي نص على وجوب تشكيل هيئة ناظمة مستقلة للقطاع تحرره من يد المستفيدين المتحكمين به.
ختاماً، المصائب تنهال على اللبنانين الذين باتوا غير قادرين على تحمّل أعباء تحديات قطاع الكهرباء. من هنا، آن الأوان لإجراء بعض الإصلاحات، ولا سيّما إصلاحات تقنية ومالية والتي من شأنها تحسين نسبة عجز الكهرباء إلى الناتج المحلي، ووضع المالية العامة على مسار مستدام.

 

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً