من أجل دعم السيولة العالمية وبهدف تعزيز مسار التعافي والنهوض الاقتصادي في العالم بعد تداعيات جائحة فيروس كوفيد- 19، قرّر مجلس محافظي صندوق النقد الدولي في آب العام 2021 القيام بتوزيع عام لما يعادل 650 مليار دولار من وحدات حقوق السحب الخاصة “SDR” على أعضائه في أكبر عملية توزيع في تاريخه. وفي أيلول من العام نفسه، حوّل الصندوق إلى لبنان نصيبه من هذه الحقوق البالغة قيمتها ما يُقارب الـ 1.139 مليار دولار. وتوزّع المبلغ ما بين 860 مليون دولار عن العام 2021 و275 مليون دولار عن العام 2009، وذلك بناءً على طلب وزارة الماليّة تحويل حقوق السحب الخاصة المتاحة للبنان، بما فيها تلك العائدة إلى العام 2009. وأودع المبلغ في حساب المصرف المركزي على أن يخصص لحساب الخزينة العامّة، وذلك بعد أن تعهّدت الحكومة حينذاك بعدم المسّ بهذه الأموال أو بالرجوع إلى المجلس النيابي في حال دعت الحاجة إلى الصرف منها.
وبعد مرور أكثر من عام ونصف العام على نيل لبنان حصّته، وجهت أصابع الاتهام إلى حكومة تصريف الأعمال بتبديد ما يقارب الـ70 في المئة من حقوق السحب التي حصل عليها. أموال الصندوق أُنفقت بصورة كبيرة على الدعم واستيراد الأدوية والقمح والكهرباء ودفع مستحقات القروض وجوازات السفر وغيرها من الانفاقات التي عجزت الدولة عن تمويلها من مصادر ذاتية أخرى نتيجة استفحال الأزمة الاقتصادية وتراجع احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة إلى حوالي 9.3 مليارات دولار بعدما كانت تبلغ 32 ملياراً مع بدء الأزمة في العام 2019. وتبعاً للأرقام الصادرة عن وزارة المالية لغاية السابع والعشرين من شهر كانون الثاني لهذا العام، فقد بلغ مجموع هذه الانفاقات نحو 747 مليون دولار، ما يعني أنّ ما تبقّى من أموال حقوق السحب الخاصّة هو ثلث المبلغ فقط أي ما يُقارب حوالي 392 مليون دولار والتي يتوقّع لها أن تصمد لمدّة ستّة أشهر فقط.
ومع تبديد القسم الأكبر من الأموال المخصّصة للبنان وصرفها من دون اللجوء إلى اعتماد معايير واضحة وشفافة أو تأمين المحاسبة والرقابة، وفي ظل غياب النهج التنموي وانعدام الخطط والاجراءات التصحيحية وعدم الالتزام بتطبيق الاصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى التخبط السياسي وتصاعد حدة الانقسامات والصراعات بين الفرقاء السياسيين وعجزهم عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تُطرح علامات استفهام حول ما قد يحصل إن تم صرف بقيّة المبلغ بصورة عشوائية، لا سيما وأن ذلك يزيد من مخاوف اللجوء مجدداً إلى استخدام ما تبقى من احتياطات مصرف لبنان بالعملة الصعبة، وبالتالي ارتفاع وتيرة استهلاك موجوداته المُستنزفة أساساً جراء ضخ الدولار في السوق عبر منصة “صيرفة” لضمان استقرار سعر الصرف. وفي حال اللجوء إلى هذا الخيار، فإن حالة النزيف سوف تستمر حتى نفاد آخر مخزون احتياطي من العملات وربمّا قد يتخطاها ليصل إلى المسّ بثروة لبنان المجمّدة من احتياطي الذهب والمخزّن بعضها في “المركزي”.
لم تستطع الحكومة أن تفي بوعدها المقطوع بعدم المس بالأموال المخصّصة للبنان نتيجة التعقيدات التي رافقت تراكم الأزمات على مدى سنوات وعدم القدرة على الحصول على أي مورد مالي يدعم خزينتها العاجزة، الأمر الذي أدّى إلى صرف هذه الأموال من أجل تمويل نفقات استهلاكية لم تعد بالفائدة المرجوة على اللبنانيين ولم توفّر لهم أيّة حلول جذريّة من شأنها التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية عليهم. ومع هدر نحو 800 مليون، يكون لبنان قد خسر مصدراً تمويلياً مهماً كان الأجدى به انفاقه على مشروع تمويل البطاقة التمويلية أو توفير برنامج حماية اجتماعية أو دعم مادي لمساندة الأسر اللبنانية الأكثر عوزاً وتضرراً. أما المبلغ المتبقي، فلن يكون مصيره بمنأى عن الصرف غير المدروس ما لم تتخذ إجراءات ضرورية تحمي هذه الملايين وتحافظ عليها لاستخدامات إصلاحية مستدامة تكون مدخلاً لاستعادة الثقة وضخ العملة الصعبة إلى البلاد من جديد.