اتفاق “الحبر على ورق”… عام مضى

هدى علاء الدين

بعد أشهر من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أعلن لبنان في السابع من نيسان العام 2022 التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء بشأن السياسات الاقتصادية للافادة من “تسهيل الصندوق الممدد” لمدة أربع سنوات وهو تسهيل إقراض تابع للصندوق لمساعدة البلدان الأعضاء في التغلب على المشكلات الاقتصادية الهيكلية. ويهدف الاتفاق إلى دعم استراتيجية الإصلاح التي وضعتها السلطات اللبنانية لاستعادة النمو والاستدامة المالية، وتعزيز الحوكمة والشفافية، وزيادة الإنفاق الاجتماعي والإنفاق على إعادة الإعمار، على أن يتم إكمال ذلك بإعادة هيكلة الدين العام الخارجي التي ستؤدي إلى مشاركة كافية من الدائنين لإعادة الدين إلى حدود مستدامة وسد فجوات التمويل.

وقامت الخطة الحكومية حينها على خمس ركائز أساسية، تمثل السياسات والاصلاحات الحاسمة فيها، إلى جانب التمويل الخارجي الكبير، أمرين ضروريين لتحقيقها. وفي ما يلي استعراض لهذه الركائز:

  • إعادة هيكلة القطاع المالي لكي تستعيد المصارف مقومات الاستمرار وقدرتها على تخصيص الموارد بكفاءة لدعم التعافي.

  • تنفيذ إصلاحات مالية تضمن، مع إعادة الهيكلة المقترحة للدين العام الخارجي، بقاء الدين في حدود مستدامة وخلق حيز للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وإعادة الإعمار والبنية التحتية.

  • إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما قطاع الطاقة، لتقديم خدمات ذات جودة من دون استنزاف الموارد العامة.

  • تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بغية تدعيم الشفافية والمساءلة، بما في ذلك عن طريق تحديث الإطار القانوني لمصرف لبنان وترتيبات الحوكمة والمساءلة.

5- إقامة نظام للنقد والصرف يتسم بالموثوقية والشفافية.

اليوم، وبعد مرور عام على توقيع هذا الاتفاق، كان من المتوقع أن ينجز الكثير من الاجراءات الاصلاحية التي تُمهد الطريق لحصول لبنان على أموال الصندوق. لكن الواقع أظهر أن هذا الاتفاق لم يكن إلا اتفاق حبر على ورق، بعدما فشل لبنان الرسمي في تحسين المالية العامة وخفض الدين العام واتخاذ التدابير التي تُولّد الإيرادات والإصلاح الإداري بهدف ضمان توزيع العبء الضريبي بصورة أكثر عدالة وشفافية، في حين لم تكن ميزانية العام 2022 على قدر المطلوب بسبب تعددية سعر الصرف وعدم قدرة احتساب الإيرادات بطريقة تضمن تحصيلها والبناء عليها، الأمر الذي انعكس سلباً على قدرة الحكومة في زيادة مستحقات موظفي القطاع العام لاستئناف نشاط الادارة العامة ودخول هذا القطاع في إضراب مفتوح هدّد سير العمل الإداري والتربوي. كما أن زيادة الإنفاق الاجتماعي بهدف حماية الأكثر ضعفاً لم تتحقق حتى الآن ولم تستطع الحكومة تمويل عجز الميزانية من خلال التمويل الخارجي، بل استمرت في تمويلها من مصرف لبنان الذي استنزف هذا العام المزيد من احتياطه عبر التدخل في السوق السوداء إما لشراء الدولار أو بيعه عبر منصة “صيرفة”. وقد أدى هذا التدخل إلى زيادة التضخم، عوض خلق ظروف تسمح بتراجعه عبر اعتماد نظام نقدي جديد كما كان مطلوباً وفقاً للبنود الإصلاحية.

ونتيجة لكل هذه الاخفاقات وازدياد الضغوط على مصرف لبنان، فشل في إعادة بناء احتياطه من النقد الأجنبي الذي انخفض إلى ما دون الـ 9.3 مليارات دولار ولم يستطع الحفاظ على سعر صرف موحد يحدده السوق. وبالتالي، استمرت معاناة القطاع المالي في ظل عدم تهيئة المقومات اللازمة لاستمراره ولم ينجح في تبديد عدم اليقين الحالي وتهيئة الظروف المواتية لتحقيق نمو اقتصادي قوي، فضلاً عن عدم تحمل الخسائر المالية بصورة عادلة واستمرار التجاذبات لناحية تحميل المودعين الجزء الأكبر منها. وعلى الرغم من تصميم استراتيجية ملائمة لذلك، إلا أن مجلس النواب فشل أيضاً في إقرار التعديلات التشريعية لدعمها لا سيما قانون “الكابيتال كونترول” وقانون رفع السرية المصرفية. أما الإصلاحات المتعلقة بالسياسة الضريبية وزيادة حصيلة الإيرادات التي تساعد على الحد من نزيف الموارد الحكومية الشحيحة، فلا تزال عالقة في الفجوة الضريبية بين المداخيل وتكريس اللاعدالة الضريبية.

حتى اليوم، لم يتم الاتفاق على استراتيجية واضحة لاعادة هيكلة المصارف، ولم توحد أسعار الصرف المتعددة للدولار، ولم توضع خطة واضحة لحماية صغار المودعين، وبدء التفاوض مع الدائنين للوصول إلى حل لمعضلة الدين العام من أجل إعادة هيكلته. ومن خلال اللهجة القاسية والتحذير الصارم الذي أطلقه رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز في زيارته الأخيرة الى لبنان، يبدو واضحاً أن التوصل إلى اتفاق نهائي مع الصندوق لن يكون قريب المنال، خصوصاً وأن الاختلاف الجوهري لناحية كيفية تطبيق الإصلاحات وعدم الجدية التي يُبديها الطرف اللبناني قد يطيحان كل مساعي الصندوق الإنقاذية. وفي الوقت الذي ترى فيه بعض الأطراف السياسية أن الخضوع لرغبات صندوق النقد وأجندته ليس مستحباً لناحية الشروط القاسية التي يطالب بها، أثبتت أعوام الأزمة أن لبنان غير قادر على حل أزمته وحيداً.

صحيح أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ليس حلاً أمثل ونهائياً لما يعاني منه لبنان، وقد يصبح بلا جدوى بعد كل هذا التأخير ولما لذلك من انعكاسات على الاجراءات الإصلاحية، لكن الواضح أن لبنان يحاول كسب المزيد من الوقت للتخلص من أكبر قدر ممكن من الخسائر المالية التي تقع على عاتق الدولة، علماً أن الاستمرار في هذا النهج مع الصندوق بالتزامن مع غياب القرار السياسي لمعالجة المعضلة الاقتصادية قد يجلب للبنان المزيد من الشروط القاسية.

شارك المقال