13 نيسان 2023…. حرب الاقتصاد أشرس من حرب السلاح

سوليكا علاء الدين

يستذكر اللبنانيون في الثالث عشر من نيسان هذا العام مرور 48 عاماً على اندلاع الشرارة الأولى للحرب الأهلية، حرب شعواء دمّرت معالم الحياة وقطّعت أوصال الوطن وقسّمت عاصمته بمتاريس حقد وكراهية وفرّقت شعبه حتى جعلت أبناء الوطن الواحد يتصارعون ويتقاتلون من دون أي رادع. 15 عاماً من الهلاك والدمار والاقتتال الداخلي الشرس أسفرت عن أكثر من 150 ألف قتيل و300 ألف جريح ومعوّق و17 ألف مفقود، بالإضافة إلى هجرة ما يقارب المليون شخص، وخسائر مادية جسيمة فاقت قيمتها الـ 100 مليار دولار.

المؤشرات خلال الحرب

مع بدء الحرب عام 1975، تحوّل لبنان إلى مناطق متخاصمة ومتنازعة ومعزولة عن بعضها البعض أدت إلى شلل النشاط الاقتصادي وتوقف عجلة النمو، تاركة ندوباً كبيرة في بنية الاقتصاد ما أسهم في تراجع الدخل والنقد الوطني وحدوث موجة تضخم بنسبة 70 في المئة أثّرت بصورة سلبية على الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي. ومع غياب إحصاءات واضحة ودقيقة للخسارة اللاحقة بالناتج الوطني في تلك الحقبة، فإن تقّديرات مصرف لبنان وغرفة الصناعة والتجارة في بيروت تُظهر تراجع الناتج المحلي القائم بنسبة 25 في المئة بين العامين 1975 و1982 مع هبوط في قيمة الصادرات الصناعية بأكثر من 30 في المئة مقوّمة بالدولار في الفترة نفسها. كما تراجع ميزان المدفوعات مسجلاً 933 مليون دولار عام 1983 ثم 1353 مليون دولار عام 1984 نتيجة هروب بعض الرساميل من المصارف في ظل أعمال العنف واستمرار التوتر الأمني الداخلي، ناهيك عن تدهور القيمة التجارية لليرة مقابل الدولار، إذ انخفضت قيمتها من 409.2 ليرات عام 1988 إلى 701.7 ليرة عام 1990، كما ازداد الدين العام الداخلي بنسبة 87.5 في المئة. ونشطت تجارة الممنوعات والسطو على المؤسسات ومصادرة أجهزة البنية التحتية فضلاً عن سيطرة الميليشيات على موارد الدولة وإيراداتها التي سجّلت تراجعاً مقابل زيادة في الانفاق لا سيما الانفاق العسكري الأمر الذي أدى إلى إضعاف احتياط المصرف المركزي من 3 مليارات دولار عام 1982 إلى 1440 مليون دولار عام 1985. وفي العام 1975، تصاعدت نسبة العجز من 21. 8 في المئة إلى 86 في المئة عام 1978 لتبلغ ذروتها عام 1988 مسجلة 92.2 في المئة. أما على صعيد العملة الوطنية، فقد حافظت الليرة اللبنانية على سعر صرف مستقر تقريباً مقابل الدولار الأميركي لسنوات طويلة بلغ 2.2 ليرة إلا أن هذا الاستقرار تبعه تدهور حاد بلغ 7.2 ليرات، واستمرّ هذا التدهور بحيث سجل عام 1982 حوالي 2800 ليرة ليتراجع بعدها إلى سعر 1507 ليرات والذي بقي عليه حتى بداية الأزمة عام 2019.

حرب اليوم أكثر ضراوة

اليوم، وبعد مرور أكثر من 33 عاماً على انتهاء هذه الحرب المشؤومة، لا يزال شبح الصراعات والنزاعات يخيّم على أذهان اللبنانيين ويُلازم أيامهم خصوصاً أولئك الذين عايشوا تلك الحقبة البشعة والأليمة بتواريخها وذكرياتها وكوابيسها ويشهدون اليوم على حرب اقتصاديّة واجتماعيّة وماليّة خانقة ضاقوا بها ذرعاً. فمنذ خريف الـ2019، تعصف باللبنانيين رياح المعاناة والمآسي التي تتربّص بهم وتتقاذفهم من كل الجهات وتزداد شدتها يوماً بعد يوم حتى أصبحوا يشعرون بأنّ أيام الحرب الأهلية كانت أخف وطأة عليهم. فعلى مدار ما يقرب من أربع سنوات، واجه لبنان مرحلة صعبة نتيجة أزمة معقّدة ومتعددة الأبعاد هي الأخطر والأكثر إيلاماً وتأثيراً في تاريخه الحديث وتشكَل التهديد الأكبر لاستقرار البلاد منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975. فالاقتصاد اللبناني بات على حافة الانهيار بسبب أزمة المديونية بعد أن وصل حجم الدين العام الى أكثر من 150 في المئة من الناتج الاجمالي الذي تراجع إلى حوالي 52 مليار دولار في 2019 و23.1 مليار دولار في 2021. وقد أدى استمرار الانكماش الاقتصادي إلى تراجعٍ ملحوظٍ في الدخل المتاح للإنفاق، فبحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش”، بلغ متوسط دخل الأسرة 122 دولاراً فقط بين تشرين الثاني 2021 وكانون الثاني 2022. علاوة على ذلك، انخفض نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بنسبة 36.5 في المئة بين العامين 2019 و2021، وأعاد البنك الدولي في تموز 2022 ترتيب لبنان ضمن الشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل، وقد ساهم تراجع متوسط الدخل، مصحوباً بمعدل تضخم وصل إلى 138 في المئة وانهيار حاد في الليرة تجاوز الـ 95 في المئة، في تدهور شديد في القوة الشرائية للمواطنين بحيث بات أكثر من 80 في المئة منهم يرزحون تحت خط الفقر بعد أن تقلّصت الطبقة المتوسطة وارتفع معدل البطالة من 11.4 في المئة خلال 2018 – 2019 إلى 29.6 في المئة في 2022.

وأدى هذا الهبوط السريع في قيمة العملة، بالاضافة إلى الاختناقات في سلسلة التوريد ونقص الوقود، إلى زيادة أسعار المواد الغذائية بصورة هائلة بنسبة بلغت 332 في المئة حتى حزيران 2022. كما توقف القطاع المصرفي الذي فَرض بصورة غير رسمية قيوداً صارمة على حركة رأس المال عن تقديم القروض أو اجتذاب الودائع وخسر المواطنون مدخراتهم وأموالهم المودعة في المصارف. وشهد لبنان انهياراً شديداً في الخدمات الأساسية مدفوعاً باستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي منذ بداية الأزمة المتفاقمة. ومع نفاد احتياطي “المركزي” من العملات الأجنبية ورفع الدعم عن استيراد معظم السلع الحيوية، ارتفعت أسعار الكهرباء، والمياه، والغاز بنسبة 595 في المئة بين حزيران 2021 وحزيران 2022. كما كان للأزمة تأثير مدمّر على توفير الخدمات العامة، لا سيما التعليم، والطبابة، والصحة، وعمّقت من معاناة نظام الحماية الاجتماعية وأثرت خصوصاً على القطاعات الرئيسة ذات الأهمية الحيوية للنمو، منها التمويل والاسكان والسياحة والتجارة. وطالت تداعياتها السلم الأهلي بحيث كثرت عمليات السرقة وتفشّت الجرائم وتزعزع الشعور بالأمن والإستقرار، وفاقم الشعور بالفقر واليأس ازدياد معدلات الانتحار وارتفاع عدّاد الهجرة الجماعية في الفترة الممتدة بين 2018 و2022، في صورة تُشبه إلى حدّ كبير ما حصل بداية الحرب الأهلية.

ما بين الحربين

لا شك في أن حرب الأسلحة وحرب الأزمات ساهمتا بصورة متفاوتة في استنزاف طاقة الاقتصاد اللبناني. ففي العام 1975، اقتصرت الحرب على أعمال العنف والقصف والاقتتال في ظل انحلال الدولة ومؤسساتها ومنعها من أداء مهامها السياسية والأمنية بعد سيطرة القوى المسلّحة عليها. وفي تلك الفترة لم يشهد لبنان أزمة مالية ونقدية حادة أو تدهوراً مريعاً في العملة الوطنية أو في قيمة الحد الأدنى للرواتب والأجور، وكثرت النشاطات الاقتصادية والأسواق البديلة في المناطق الأكثر أمناً، واستمرت المصارف في مزاولة نشاطها ولم تُحتجز أموال المودعين ولم تضمحل الطبقة الوسطى ولم تعجز الأسر عن تأمين مقومات العيش الكريم، ولم تخسر مدخراتها ولم يشهد الاقتصاد إنهياراً شاملاً وذلك بسبب هجرة الكثير من اللبنانيين التي شكّلت أحد أهم صمّامات الأمان للاقتصاد خلال الحرب وتدفّق الأموال إلى السوق اللبنانية وارتفاع تحويلات المقيمين في الخارج من 300 مليون دولار عام 1975 إلى نحو 2 ملياري دولار تقريباً عام 1985 أي ما يعادل 75 في المئة من الناتج المحلي القائم فضلاً عن المساعدات والهبات الخارجية والأموال السياسية المتدفقة لتمويل الأطراف المتقاتلة. أما اليوم، وبعد مرور ثمانٍ وأربعين سنة على بداية الحرب وعودة مؤسسات الدولة إلى العمل وإمساكها بزمام الأمور، فالوضع الاقتصادي ليس أفضل حالاً لا بل هو أسوأ بكثير من سنوات الاقتتال في ظل تهاوٍ اقتصادي مريع وأزمة مصارف وسيولة ونقد وثقة، وانهيار في العملة الوطنية، وانقطاع في الخدمات الحيوية، وإقفال مؤسسات وشلل في مختلف القطاعات، وتوقف عجلة الانتاج، وهروب الرساميل وتراجع الاستثمار، وغياب الرؤية الاصلاحية، وانعدام الحلول واستمرار انسداد الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها الكثير من الويلات التي لا تعد ولا تحصى.

تُجمع الغالبية الساحقة من اللبنانيين على أنّ فترة الحرب بجميع فقدها ومراراتها وخساراتها كانت غنيّة بالوفرة والبحبوحة وأفضل بكثير من أيام السلم هذه، فالخوف كان يقتصر على الهروب من قذيفة أو رصاصة قاتلة وحسب، أمّا اليوم فالخوف الأكبر هو الموت من جوع لا يُشبع أو مرض لا يرحم. وفي الذكرى الـ 33 على انتهاء الحرب الضروس، لا تزال تعصف بلبنان رياح حرب اقتصادية فاقت بقساوتها وشراستها آثار الحرب الدامية، وأنهكت عزيمة اللبنانيين وأضعفت قواهم وقدرتهم على التحمّل والصمود حتى أضحى الكثيرون منهم يعتبرون أنّ مواجهة القصف والعنف أهون وأرحم من مواجهة البؤس والحرمان والعوز.

في نيسان 1975 اندلعت شرارة الحرب الأهليّة الأولى في لبنان، وفي خريف 2019 اندلعت شرارة حرب إباديّة جماعيّة تجاوزت كل التوقعات والرهانات وكأنّ قدر اللبنانيين أن يعيشوا دوماً في حروب مستمرّة لا تنتهي، حروب تتخفّى خلف أقنعة متعدّدة وتُقاتل بأسلحة مختلفة وتُصيب بسهامها الشرسة شعباً بات على الرمق الأخير.

شارك المقال