أزمة لبنان تُفقده صمّام أمانه

سوليكا علاء الدين

لطالما تغنّى لبنان وعلى مدار عقود من الزمن بوجود طبقة وسطى شكّلت “القلب النابض للاقتصاد” و”صمّام الأمان للمجتمع” وبقيت الحجر الأساس للنمو والركن المتين للتنمية المُستدامة، كما لعبت دوراً حيويّاً على مختلف الأصعدة الاجتماعية والثقافية والتعليمية والسكنية والاستهلاكية، وانخرطت بصورة فاعلة في ممارسة النشاط السياسي وساهمت في تحريك عجلة الإنتاج وزيادة الطلب على الاستهلاك وتحفيز الابتكارات والتطوير والاستثمارات طويلة الأجل وبالتالي تحسين نوعية الحياة وجودتها. فماذا بقي من هذه الطبقة بعد مرور أربع سنوات على إنهيار القرن الاقتصادي؟

في العام 2010، استقطبت الطبقة الوسطى النسبة الأكبر بحيث وصلت إلى ما يقارب الـ 70 في المئة قبل أن تتهاوى إلى الـ40 في المئة لتشكّل نسبة الطبقة المُصنّفة فوق خط الفقر 30 في المئة، والطبقة تحت خط الفقر 25 في المئة وفق بيانات “الدولية للمعلومات”. ومع التآكل الهائل لهذه الشريحة، بات جزء كبير من اللبنانيين في عداد الفقراء. فأرقام الفقر المُتفاقمة تُشير إلى توسّع انتشار حزام الفقر بعد أن أضحى أكثر من ثلثي السكان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد لتتمدّد الطبقة الفقيرة على حساب اضمحلال الطبقة الوسطى، ولتزداد الفجوة الواسعة بين الأثرياء الذين بلغت نسبتهم 5 في المئة والفقراء الذين لامسوا عتبة الـ85 في المئة في تفاوت طبقي فادح. فالكثير من الأسر اللبنانية تواجه صعوبات في تأمين احتياجاتها اليومية والحصول على الخدمات الاساسية من غذاء ودواء وتعليم للبقاء على قيد الحياة، وباتت تعيش على مساعدات الجمعيات الأهلية والمنظمات والدولية وتحويلات المغتربين. كما تُظهر نتائج أحدث دراسة صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي ووزارة الزراعة اللبنانية، أنّ حوالي 1.29 مليون مقيم لبناني يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي. ومع استمرار الأزمة الاقتصادية، يزداد انعدام الأمن الغذائي سوءاً، وترتفع أسعار السلع والمواد الغذائية بحيث من المتوقع حسب بيانات التحليل، أن يتدهور الوضع بين كانون الثاني ونيسان 2023، ليُؤثّر بذلك سلباً على 1.46 مليون لبناني باتوا بحاجة إلى المساعدة العاجلة. وبهذا، ينضم لبنان إلى قائمة البلدان الفقيرة مع وقوع ما يقارب المليوني لبناني في مستنقع الفقر المُدقع.

بين أقليّة فاحشة الثراء وأكثرية ساحقة مُعدمة، يشكّل هذا المسار الانحداري الذي تسلكه الطبقة الوسطى مؤشراً خطيراً على مستقبل هذ الطبقة ومصير ما تبقّى منها لا سيما مع تصاعد نسب الفقر والبطالة واللامساواة في المداخيل والتوزيع غير العادل للثروات، بالاضافة إلى زيادة العبء المالي على عاتقها وتراجع مستوى المعيشة لأفرادها وتقلص الدخل والاختلال الكبير في موازنات أسرها بين الدخل والانفاق وخسارتها الكثير من الحوافز والامتيازات الاجتماعية والاقتصادية. فالتآكل الذي أصاب هذه الفئة ما هو إلا نتيجة من نتائج استمرار استفحال الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي وتدهور قيمة الليرة اللبنانية والغلاء الفاحش في أسعار السلع وعدم توفير برامج مساعدة اجتماعية كافية، بالتزامن مع إمتناع أركان السلطة عن ملء الفراغ الرئاسي وغياب القرارات الصارمة والفشل في السيطرة على الانهيار أو على الأقل الحد من تداعياته الكارثية. وأمام هذا الوضع المأساوي لشعب يعيش في وطن بات قاب قوسين من الوصول إلى حافة الانهيار الاجتماعي، لا بدّ من التحذير من مخاطر مواصلة هذا الانحدار وتبعاته وما قد يؤول إليه من انفجار أمني يُزعزع الاستقرار ويهدّد السلم الأهلي.

على مدى سنوات طويلة، لعبت الطبقة الوسطى دور”ضابط إيقاع” في لبنان وساهمت بدرجة كبيرة في الحفاظ على التوازن الاقتصادي وحصّنت التماسك والترابط الاجتماعي. واليوم، تتعرّض هذه الشريحة إلى حرب إقصاء تضعها في خانة الزوال وتعمّق من معاناتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، لتتحوّل من مصدر غنىً واعتزاز إلى مرتع للعوز والحرمان. لذلك، فإنّ أي خطة إنقاذ أو تعافي اقتصادية – اجتماعية يجب أن تُدرج على جدول بنودها كيفيّة إعادة إنعاش الطبقة الوسطى وتنشيطها وحمايتها من التآكل والانحسار ضمن نظام سياسي واقتصادي واجتماعي عادل وحازم. فهي كانت وستبقى رافعة الاقتصاد الأولى، ووتد المجتمع الضامن، والمالكة الوحيدة لمفاتيح النمو والتطور، والكفيلة بتحقيق سلام واستقرار وازدهار اقتصادي هو أكثر ما يحتاج لبنان إليه في هذه المرحلة المصيرية والمُستعصية.

شارك المقال