السكن في لبنان… محنة إنسانية متفاقمة

سوليكا علاء الدين

لم يعد خافياً على أحد أنّ وتيرة الانهيار الاقتصادي المتسارعة ساهمت بصورة دراماتيكية في تعميق مآسي اللبنانيين وتفاقمها على مختلف الأصعدة والمجالات، حتى أفقدتهم شيئاً فشيئاً الكثير من حقوقهم المشروعة وأبرزها الحق في الحصول على سكن لائق والتمتّع بحياة آمنة وكريمة في مسكن مُريح بمنأى عن الخوف من الاخلاء أو الحرمان من المأوى. فالانهيار الذي أصاب القطاعات الحيوية كافة أدّى إلى ركود القطاع العقاري الذي تراوحت خسائره ما بين 30 و60 في المئة، نتيجة الانكماش الكبير في الطلب مع تراجع استخدام الشيكات المصرفية كوسيلة للدفع وتوقف مصرف الإسكان والمؤسسة العامة للإسكان عن منح القروض، بالإضافة إلى دولرة عمليّة البيع التي باتت تتمّ عن طريق حسابات مصرفية خارجيّة أو عبر الدفع الحصري بالدولار “الفريش النقدي” وغير المتوافر لدى شريحة واسعة من الراغبين في الشراء بعد أن أصبح القطاع العقاري خاضعاً لسيطرة العملة الخضراء وحكراً على أصحاب العملة الصعبة.

وعلى الرغم من تهاوي أسعار المباني والشقق السكنية بنسبة 50 في المئة، إلا أنّ حدّة التدهور الاقتصادي المستمر أدّت إلى تصاعد الأزمة السكنية بحيث بات الوصول إلى السكن الميسّر والمناسب أحد أبرز التحديات الصعبة التي تعترض طريق اللبنانيين وفق ما أشار إليه التقرير الصادر عن “مرصد السكن” والذي حمل عنوان “محنة لبنان السكنيّة: التقرير السنوي المرفوع إلى الأمم المتحدة”. فقد شكّلت الأزمة سبباً في ارتفاع جنوني لمصاريف السكن وزيادة في أسعار الخدمات الأساسيّة وأحياناً انقطاعها، إذ بلغت النسبة التي تستحوذ عليها تكاليف الايجار وخدمات السكن 85 في المئة من مجمل دخل الأسر المقيمة في بيروت، ووصلت إلى 100 في المئة في الأحياء الأكثر هشاشة، بعد أن أصبحت الأعباء التي تتحمّلها الطبقات المفقّرة لناحية تكاليف خدمات السكن ثقيلة للغاية، وتستحوذ على كامل دخلها. كل ذلك مقابل انخفاض قيمة مداخيل المواطنين، والتضخّم الحاد وتدهور قيمة الليرة اللبنانية وتعدّد أسعار الصرف، إلى جانب تفجير المرفأ في 4 آب وعمليّة إعادة تأهيل المناطق المتضررّة، وصولاً إلى قرار رفع سعر الصرف الرسمي من 1500 ليرة للدولار إلى 15000 ليرة والذي اتّخذ من دون أي اعتبار لانعكاساته على بدلات الايجار للمستأجرين وأقساط شراء المنازل – التي تضاعفت عشرة أضعاف – في ظلّ غياب أي تصحيح جدّي للأجور، وصولاً إلى الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا وكانت له تأثيرات سلبية على سلامة المباني في لبنان.

التقرير قام بتحليل الظروف السكنيّة لـ 163 بلاغاً عن حالات تهديد للسكن من أصل 170 وصلت إلى المرصد في الفترة الممتدة بين آذار حتّى تشرين الثاني من العام 2022 والنظر في أنواع الهشاشات السكنيّة التي تشمل بصورة أساسية التهديد الناتج عن تكلفة السكن (71.17 في المئة)، أو ممارسات وظروف أخرى ضاغطة غير متعلقة بكلفة السكن (38.04 في المئة)، لينتقل بعدها إلى استعراض مفصل لمدى الانتهاك الحاصل لكلٍّ من المعايير الموضوعة للحق في السكن. كما لفت إلى أن الازدياد الحادّ الذي لحق ببدلات الإيجار في غياب رقابة الدولة وضبطها للعقود، أدّى إلى تقلّص حجم شريحة المواطنين الذين تسمح لهم مداخيلهم بالاستئجار من جهة، أو دفعهم إلى إبرام عقود إيجار لمهل قصيرة نسبيّاً لا يمكن خلالها ضمان حيازة السكن والمطالبة بترتيبات سكنية لائقة من جهة أخرى. كل ذلك في ظل غياب السلطات المحلية أو المركزية عن اتخاذ أي تدابير جادة لتأمين الحقّ في السكن مع انهيار اقتصادي ساحق وانهيار موازٍ له على مستوى خدمات الدولة، الأمر الذي أثّر على سكّان المدن في جميع أنحاء لبنان وأصاب بصورة متسارعة ومتفاقمة الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية التي تعاني أصلاً من أشكال من التمييز والتهميش. وقد لحظ التقرير أيضاً، تفاوتاً ملحوظاً في نسب المبلّغين بحسب نوع الوصول إلى السكن. كما حصدت البلاغات المتعلّقة بإيجارات جديدة الحصة الأكبر منها بنسبة 85.3 في المئة، مقابل 6.1 في المئة للإيجارات القديمة و3.1 في المئة في حالات الوصول إلى السكن من خلال التملّك. وفي ما يختصّ بالحالات المهدّدة بالإخلاء، تمّ رصد 92 حالة طلب إخلاء و13 حالة إخلاء منفّذ من ضمن مجمل البلاغات التي تلقّاها المرصد مع تتبّع 36 حالة ترافق فيها طلب الإخلاء مع وجود ممارسات تعسفية. مع الاشارة إلى أنّ البدائل المتوافرة أمام هذه الحالات تبقى محدودة وهذا ما يتسبّب غالباً بتدهور في حياة الأفراد والعائلات المهدّدة، خصوصاً بالنسبة الى الفئات المُهمّشة أو المُستضعفة في المجتمع، والذي يعرّضهم إلى الفقر المدقع والعوز.

وضمن البلاغات التي تابعها المرصد في تقريره، تبيّن أنّ 57.1 في المئة من 98 حالة يُنفقون أكثر من ثلثي مدخولهم على السكن، بينهم 34.7 في المئة يُنفقون أكثر من النصف. في المقابل، اعتمد 16.6 في المئة من إجمالي المبلّغين على أساليب غير ملائمة لهم لتأمين كلفة السكن، كالاستدانة أو طلب المساعدة لتأمين جزء أو كامل نفقات السكن (8 في المئة) أو التخلّف عن دفع الايجار لتأمين حاجات أخرى (10.4 في المئة). وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ومع التدهور المستمر في قيمة المدخول الشهري لجزءٍ كبير من الناس عموماً والمستأجرين خصوصاً، أصبحت تكاليف السكن تُهدِّد القدرة المالية، الفردية أو الأُسرية، وتقوّض القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى. وبين الحالات المرصودة، بلغت نسبة المبلّغين الذين يقع مكان سكنهم ضمن منطقة قريبة من منشآت صناعية أو مصادر ملوّثة 28.2 في المئة، ونسبة الذين يقع مسكنهم في موقع يعرضهم للخطر بسبب عوامل طبيعية 0.6 في المئة، وهو ما يمكن أن ينعكس سلباً على حياتهم وحالتهم الصحية على المدى الطويل. وفي الختام، تمّ تسليط الضوء على تجاهل حاجات كبار السن بحيث يسكن 22.2 في المئة منهم و66.7 في المئة من الأشخاص ذوي الإعاقة في مساكن لا تتناسب مع احتياجاتهم ولا تراعي حقوقهم في العيش ضمن مجتمعهم والسكن اللائق والتنقل الآمن والمستقل.

وكان التقرير قد حمّل الدولة – المُتقاعسة عن دورها في وضع سياسات إسكانية عادلة – مسؤوليّة خياراتها المُتّخذة في اعتبار السكن مجرد سلعة، بدل اعتباره حاجة إجتماعية، بحيث قامت على مدى سنوات بمنح الملكية من خلال القروض “الميسرة” كسياسة الاسكان الوحيدة التي توقفت بصورة تامة، تزامناً مع أسوأ أزمة اقتصادية شهدتها البلاد، داعياً إلى ضرورة العمل على إصدار قانون يدافع عن الحقّ في السكن اللائق من خلال دعم محلي وخارجي لأن المعاناة تتراكم ومعها تشتدّ محنة لبنان السكنيّة. فالسكن الآمن أولوية لكل مواطن لبناني يعيش في وطنه الأم وهو حقّ مُصان ومُكرّس في شريعة حقوق الانسان لا يجوز انتهاكه أو المس به.

شارك المقال