ثورات التكنولوجيا تعصف بسوق العمل وتهدّد مستقبل العمّال

سوليكا علاء الدين

يضجّ العالم اليوم بالتطورات والانجازات التي يشهدها قطاع التكنولوجيا وبالدور الحيوي الذي يلعبه في تحريك النمو الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي وتطوير المجتمعات. فعاصفة التكنولوجيا الثوريّة غيّرت مسار الحياة الاقتصادية وساهمت في حدوث تغييرات محورية وملحوظة في سوق العمل العالمي من خلال اعتماد أساليب إنتاج متطوّرة وإتاحة فرص عمل جديدة وتعزيز أداء العمّال وإنتاجيتهم، وبالتالي توفير سلع ومنتجات قادرة على المنافسة في أسواق مفتوحة بلا حدود أو قيود.

ومع توسّع فضاء الإبداع والإبتكار وتغلغل الذكاء الاصطناعي، يزداد الخوف والقلق من أن تساهم هذه الفورة التكنولوجية في تهديد مصير العمّال وفقدانهم وظائفهم ورفع معدّل البطالة، وزيادة التفاوت وعدم المساواة في سوق العمل. وهذا ما حذَّر منه التقرير الاقتصادي السنوي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)، خلال اجتماع دافوس في سويسرا والذي حمل عنوان “تقرير سنة 2023: عن مستقبل الوظائف”. التقرير الذي شمل 803 شركات مُستجوَبة توظّف مجتمعة أكثر من 11.3 مليون عامل – عبر 27 مجموعة صناعية و45 اقتصاداً من مختلف أرجاء العالم – توقّع أن تشهد 23 في المئة من الوظائف الحالية تغييرات جوهرية في السنوات الخمس المقبلة بنسبة نمو تقدّر بـ 2.10 في المئة ونسبة تراجع تقدر بـ 3.12 في المئة، بالاضافة إلى خلق 69 مليون وظيفة جديدة واستبعاد 83 مليون وظيفة أخرى من أصل 673 مليون وظيفة مسجّلة في قاعدة البيانات، وهو ما يعني انخفاضاً مباشراً يقدّر بحوالي 14 مليون وظيفة أو 2 في المئة من مواطن الشغل الحالي.

كما أشار إلى أنّ التحول إلى الاقتصاد الأخضر والتعويل على سلاسل الإمدادات المحلية واعتماد التكنولوجيا وتعميم الوصول إلى كل ما هو رقمي سوف تؤدّي جميعها إلى خلق العديد من مواطن الشغل وإلى ارتفاع حقيقي في فرص العمل، غير أنّ ذلك سيكون عرضة للعديد من العوائق أبرزها بطء نسق النمو الاقتصادي ونقص الامدادات والتضخّم. كذلك توقّع أن تكون بعض المجالات والوظائف كأخصائي الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وأخصائي الاستدامة ومختصي حماية البيئة ومحلل ذكاء الأعمال وأخصائي أمن المعلومات أكثر المجالات سرعة في النمو، كما أنّ من المقدّر أن تستأثر مجالات التعليم (بنسبة 10 في المئة) والزراعة (بنسبة 30 في المئة) والتجارة الرقمية بنسب الأسد في هذا النمو.

وأظهر التقرير أن الوظائف الأسرع من حيث النمو هي تلك المرتبطة بالتكنولوجيا وبالرقمنة، بحيث توقّع 65 في المئة من المشاركين في الاستطلاع نمو فرص العمل في الوظائف المرتبطة بهذا المجال. ومن المتوقع أيضاً نمو توظيف محللي البيانات وعلمائها والمختصين في البيانات الضخمة واختصاصيي التعلم الآلي باعتماد الذكاء االصطناعي والمختصين في الأمن السيبراني بمعدل يقدر بـ 30 في المئة بحلول العام 2027. كما ستعطي حوالي 42 في المئة من الشركات المستجوبة الأولويّة لتدريب العاملين على استخدام الذكاء االصطناعي والبيانات الضخمة في السنوات الخمس المقبلة، تاركة أمامها التفكير التحليلي (48 في المئة) والتفكير الإبداعي (43 في المئة) من حيث مدى الأهمية. وستؤدي التجارة الرقمية إلى تحقيق أكبر المكاسب إطلاقاً في التاريخ، مليون وظيفة جديدة، إذ يُتوقّع أن توفّر حوالي 2 مليوني وظيفة جديدة ممكننة رقميّاً مثل مختصّي التجارة الالكترونية ومختصّي التحوّل الرقمي ومختصّي التشغيل والاستراتيجيات. لكن بالتوازي مع ذلك، تشكّل التكنولوجيا والرقمنة أيضاً سبباً في تراجع بعض الوظائف واندثارها على غرار الوظائف الادارية أو السكرتارية وهي المهن التي يرجّح أن تشهد التراجع الأسرع.

كما كشف التقرير أنّ المهام لم تعد مُؤتمتة اليوم أكثر مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، إذ إنّ حوالي ثلث المهام أي ما يقارب 34 في المئة مؤتمتة حالياً بزيادة بنسبة 1 في المئة فقط مقارنة بالرقم المصرّح به سنة 2020. وقامت بمراجعة توقعاتها لمزيد من الأتمتة لتبلغ النسبة 42 في المئة من المهام بحلول العام 2027 مقارنة بتقديرات العام 2020 التي توقعت 47 في المئة من المهام بحلول العام 2025، في حين تضاءلت التوقعات بأن تحل الآلات محل العمل اليدوي، بحيث من المتوقّع أن يكون التفكير والتواصل والتنسيق – وهي الصفات التي تمّيز البشر عن الآلات – أكثر قابلية للأتمتة في المستقبل. وتابع التقرير توقعاته لافتاً إلى أنّ اعتماد ما يقارب 75 في المئة من الشركات الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى ارتفاع معدل فقدان الوظائف، إذ تتوقع 50 في المئة من الشركات أن يخلق نمواً في الوظائف و25 في المئة منها أن يتسبّب بخفض عدد الوظائف.

أما من حيث التدريب والمهارات المعرفية للعمّال، فقد أظهر التقرير الحاجة الملحّة إلى ثورة في مجال إعادة تشكيل المهارات إذ سيحتاج ستة من بين كل 10 عمال إلى التدريب قبل العام 2027، إلا أن نصف الموظفين حالياً فقط يتمتعون بإمكان الوصول إلى فرص التدريب المناسبة. في الوقت نفسه، أشارت تقديرات التقرير الى أن 44 في المئة من مهارات العامل الفردي في المتوسط ستحتاج إلى التحديث، فالفجوة الحاصلة بين مهارات العمال واحتياجات العمل المستقبلية تضع العبء على عاتق الشركات والحكومات لتمكين فرص التعلم وإعادة صقل المهارات المرنة والقليلة التكلفة بصورة واسعة وضرورية خصوصاً تلك التي يحتاجها العمال الذين فقدوا شغلهم للانتقال إلى وظائف المستقبل. كما تّم الإبلاغ عن تزايد أهمية المهارات المعرفية بصورة أسرع، ما يعكس الأهمية المتزايدة لحل المشكلات المعقدة في مكان العمل. فالشركات التي شملها الاستطلاع أشارت إلى أن التفكير الابداعي يزداد أهمية بسرعة أكبر من التفكير التحليلي، في حين يأتي محو الأمية التكنولوجية في الترتيب الثالث كأسرع المهارات الأساسية نمواً.

تكثر الآراء وتختلف حول مدى أهمية استخدام التكنولوجيا في مختلف ميادين العمل، غير أنّ المؤشرات والوقائع تُشير إلى أن التطورات التكنولوجية الحديثة الهائلة والمتسارعة كان لها الدور البارز في تغيير ملامح سوق العمل العالمي والتحكم به وبمصيره المستقبلي. ويتخوّف الكثيرون من مدى قدرة التكنولوجيا على السيطرة على الإنسان، بحيث باتت تتعالى تباعاً الأصوات التحذيرية من أنظمة “الذكاء الاصطناعي” ومنافستها “الذكاء البشري” وخطورتها الداهمة على المجتمعات البشرية ومدى سيطرتها على قطاعات عديدة في المستقبل وقدرتها على تعطيل سوق العمل بصورة كبيرة. ومع ثورة التطور والتقدم المتسارعة التي يعيشها العالم يوم، بات التطور التكنولوجي أمراً لا مفر له، لكن ذلك لا يعني أنّ الروبوت الآلي سوف يلغي دور العامل البشري. فكما التكنولوجيا تُعتبر مكوّناً رئيساً لتقدّم المجتمع، كذلك هي اليد العاملة التي يجب الحفاظ عليها لما تشكّله من قيمة فريدة وثروة غنية للاقتصاد؛ فالنهضة التكنولوجية يجب أن تكون وسيلة لتنمية ذكائها وتطوير قدراتها الفكرية ومهاراتها المعرفية والابداعية وتحسين ظروفها العملية وليس تهديداً لوجودها ومصيرها.

شارك المقال