الاستقرار والتعافي الاقتصادي في لبنان… مسار بعيد المنال

سوليكا علاء الدين

تحت عنوان “التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار”، تناول تقرير “المرصد الاقتصادي للبنان” ربيع 2023 الصادر عن البنك الدولي آخر التطورات والمُتغيرات الاقتصادية في البلاد، عارضاً الآفاق المُستقبلية وآخذاً في الاعتبار تأثير انعدام اليقين المُفرط والجمود السياسي على الوضع الاقتصادي المتأزم. التقرير أشار إلى مواصلة الاقتصاد اللبناني انكماشه في العام 2022 وإن كان بوتيرة أبطأ مما كانت عليه في السنوات السابقة، إذ يرجع التباطؤ في الانكماش الاقتصادي في الـ2022 بصورة كبيرة إلى التأثير الأساس (المشار إليه باسم التباطؤ الفني في الانكماش الاقتصادي) وذلك بعد انكماش تراكمي لمدة أربع سنوات من 2018 إلى 2021، بلغت نسبته 37.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. فالتقديرات تُشير إلى أنّ إجمالي الناتج المحلي الحقيقي قد انخفض بنسبة 2.6 في المئة العام المُنصرم. وعلى الرغم من التحسن الطفيف في نشاط القطاع الخاص، لا يزال العجز المتزايد في الحساب الجاري، والذي يشكل خللاً بنيوياً قديماً، يؤثّر على آفاق النمو. وأظهرت الأرقام المتوقّعة أن ميزان المالية العامة سجّل فائضاً طفيفاً قدره 0.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي عام 2022 مقابل 1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2021.

أمّا على صعيد العملة الوطنية، فقد شكّل التدهور الشديد في الليرة اللبنانية دليلاً على غياب الاستقرار الاقتصادي على الرغم من الاجراءات التدخلية لمصرف لبنان في محاولة منه لتثبيت سعر الصرف في السوق الموازية. وقد خسرت العملة أكثر من 98 في المئة من قيمتها قبل الأزمة بحلول شباط 2023، وتسارعت وتيرة انخفاض قيمة العملة منذ بداية العام 2023 بحيث تجاوزت الـ 140 ألف ليرة للدولار الواحد وسط تصاعد التوترات، واضرابات البنوك، وتراجع التدخلات في النقد الأجنبي نسبياً من جانب مصرف لبنان. من ناحية أخرى، بلغ متوسط التضخم 171.2 في المئة عام 2022 وهو أحد أعلى المعدّلات على المستوى العالمي نتيجة انخفاض قيمة الليرة في المقام الأوّل، تبعه ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية. كما ازداد معدل التضخم في أسعار الغذاء في المتوسط بنسبة 240 في المئة طوال العام 2022 مسجّلاً 483 في المئة كحد أقصى على أساس سنوي في كانون الثاني 2022. وفي موازاة ذلك، زاد عجز الحساب الجاري إلى 20.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي نتيجة ارتفاع الواردات وتراجع الصادرات، إذ بلغت الواردات في العام2022 مستويات ما قبل الأزمة، مسجّلة رقماً قياسياً قدره 19 مليار دولار في حين انخفضت الصادرات بنسبة 10.2 في المئة.

كما أظهر التقرير أنّ القطاع المصرفي لا يزال متعثّراً، بحيث تتجاوز خسائره المالية 72 مليار دولار، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي في العام 2022، مُشيراً إلى أنّ التأخر في الاعتراف بحجم الخسائر والاتفاق على آلية توزيعها بصورة عادلة يؤدي إلى تفاقم الخسائر على مستوى رأس المال البشري والاجتماعي. وسلّط التقرير الضوء على دور منصة “صيرفة”، مُعتبراً إيّاها أداة نقدية غير مؤاتية أدّت إلى ارتفاعات قصيرة الأجل في سعر صرف الليرة على حساب الاحتياطي والوضع المالي لمصرف لبنان، لا سيما في غياب سعر صرف وإطار نقدي جديدين. فقد تحوّلت هذه المنصة إلى آلية لتحقيق أرباح من عمليات المراجحة بلغت حوالي 2.5 مليار دولار منذ إنشائها، فالحصول على الدولار المعروض على المنصة يحقق أرباحاً كبيرة وخالية من المخاطر نظراً الى وجود هوامش كبيرة بين سعر العملة على المنصة وسعر العملة في السوق الموازية.

وفي لمحة عن الآفاق الاقتصادية المستقبلية، توقّع التقرير أن يؤدّي استمرار غياب القرارات الخاصة بإدارة الأزمة وانعدام الارادة السياسية لتنفيذ اصلاحات مؤاتية وعادلة طوال العام 2023 إلى ضعف ملحوظ في التوقعات الاقتصادية لهذا العام إذ من المرجّح أن ينكمش إجمالي الناتج المحلّي الحقيقي بنسبة 0.5 في المئة. كما يتوقّع أن يبقى معدل التضخم من بين أعلى المستويات العالمية مع تسجيله 165 في المئة. أما عن الحساب الجاري الذي يموّل في معظمه من إجمالي احتياطي النقد الأجنبي القابل للاستخدام لدى مصرف لبنان، فمن المتوقّع أيضاً أن تتقلص نسبة العجز فيه لتصل إلى 14 في المئة في العام 2023 مع الابقاء على مسار غير مستدام.

وخلص التقرير إلى أنّ التطبيع مع الأزمة، وفي ظل هذه الخلفية، يحجب حقيقة أن الاقتصاد اللبناني لا يزال يشهد تراجعاً حاداً، بعيداً بصورة ملحوظة عن مسار تحقيق الاستقرار – ناهيك عن مسار التعافي. وكلما طال التأخير في اعتماد خطة شاملة ومناسبة ومنصفة للتعافي، ازدادت قتامة الخيارات المتاحة على صعيد السياسات مع تآكل الموارد الحيوية لتحقيق التعافي. فتباطؤ وتيرة الانكماش في النشاط الاقتصادي لا يعني أن الاستقرار بدأ يتحقق. في الواقع، أدى القطاع المصرفي المتعثر إلى حد كبير والعملة الوطنية التي فقدت الكثير من وظائفها الرئيسة، إلى نشوء اقتصاد نقدي مدولر يعادل نحو نصف إجمالي الناتج المحلي في العام 2022، ما زاد من إعاقة آفاق التعافي الاقتصادي. وما دام الاقتصاد آخذاً في الانكماش وأوضاع الأزمة قائمة، فإن مستويات المعيشة ستشهد مزيداً من التآكل، وسيستمر الفقر في الانتشار، وستسود بيئة عامة محفوفة بالمخاطر.

وفي الختام، تمّ اختصار سوداويّة المشهد بالقول إنّ الوضع الراهن سوف يؤدّي إلى استنفاد رأس المال بجميع أوجهه، ما يفسح المجال أمام تعميق عدم المساواة الاجتماعية، بحيث هنالك عدد قليل فقط من الفائزين “نسبيّاً” وغالبية كبيرة من الخاسرين. إذاً، توقعات الـ2023 حسب البنك الدولي لا تبشّر بانفراج قادم كما أنهّا لا تحمل أي مفاجآت غير متوقّعة في ظل الدوران في حلقة مُفرغة من الانهيار والانفلات وعرقلة خطط التعافي والبرامج الاصلاحية. فلبنان اليوم بات وأكثر من أي وقت بأمسّ الحاجة اليها، علّها تُساعده في النهوض من كبوته عبر إرساء أسس متينة لاستقرار وانتعاش اقتصادي ومالي واجتماعي عادل وشامل.

شارك المقال