عجز الميزان التجاري ينكمش… من دون هدف

المحرر الاقتصادي

يعاني لبنان عجزاً تاريخياً في ميزانه التجاري، وهو أحد مكونات ميزان المدفوعات العاجز هو الآخر. الميزان بين الميزانين ليس سوياً. فمنذ العام 2020 وعجز الميزان التجاري إلى تقلص، فيما عجز ميزان المدفوعات صامد يعاكس التقلص الحاد في المستوردات بفعل الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية وشح العملات الأجنبية الضرورية للاستيراد.

آخر الإحصاءات الصادرة عن إدارة الجمارك اللبنانية تظهر أن عجز الميزان التجاري بلغ في الشهرين الأولين من العام الحالي، ملياراً و566 مليون دولار في مقابل حوالي مليار و428 مليون دولار في الفترة نفسها من العام الماضي. وهو ما يمثل ارتفاعاً نسبته 9.6 في المئة على أساس سنوي.

ويعود هذا الارتفاع في العجز إلى انخفاض فاتورة المستوردات بنحو 155 مليون دولار إلى حوالي الـ1.95 مليار دولار نتيجة شح السيولة بالعملة الأجنبيّة في القطاع المصرفي ما أعاق حركة الاستيراد، رافقه تراجع أكبر في قيمة الصادرات بـ293 مليون دولار إلى 384 مليون دولار بفعل الصعوبات التي يواجهها المصدّرون.

صحيح أن تراجع عجز الميزان التجاري هو إجراء ضروري ومهم، لأنه يفسّر جانباً أساسياً في ميزان المدفوعات يتعلق بخروج العملات الأجنبية، لكن هذا الأمر كان يفترض أن يترجم في أرقام ميزان المدفوعات. لكن هذا لم يحصل. فميزان المدفوعات سجل عجزاً تراكمياً بقيمة 751.2 مليون دولار بحلول شباط 2021، مقارنة بعجز بقيمة 505.3 ملايين دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي. إذ انخفضت الموجودات الصافية بالعملات الأجنبية لمصرف لبنان بواقع مليار و88 مليون دولار في مقابل ارتفاع الموجودات الصافية بالعملات الأجنبية للمصارف اللبنانية بـ 336.9 مليون دولار.

وقد تصدَّرَت الإمارات لائحة الدول المستوردة من لبنان، مع فاتورة إستيراد وصلت إلى 73 مليون دولار، أي  ما يمثل نحو 19 في المئة من الصادرات الإجمالية. في حين جاءت تركيا في المرتبة الأولى على لائحة الدول المصدّرة إلى لبنان، حيث وصلت فاتورة صادراتها إلى 194 مليون دولار أي  ما يمثل 9.95 في المئة من الفاتورة الإجمالية للاستيراد.

واحتلت صادرات “اللؤلؤ، الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة والمصوغات” المرتبة الأولى على لائحة السلع المصدّرة من لبنان والتي لا يزال مرفأ بيروت يحتل الصدارة في تصديرها. وبلغت حصتها 26.4 في المئة أو ما قيمته 102 مليوني دولار من الصادرات الإجمالية. تلتها “منتجات صناعة الأغذية، المشروبات، والتبغ” والتي بلغت قيمة صارداتها 55 مليون دولار أو ما نسبته 14.2 في المئة من فاتورة الصادرات. ثم “منتجات عاديّة ومصنوعاتها” بقيمة 54 مليون دولار أو ما نسبته 14 في المئة من المجموع، فـ”المنتجات النباتيّة” (36 مليون دولار أو 9.43 في المئة من المجموع).

في المقابل، احتلت “المنتجات المعدنيّة” المرتبة الأولى بقيمة 459 مليون دولار أو ما نسبته 23.56 في المئة من مجموع لائحة السلع التي استوردها لبنان، تبعتها “منتجات الصناعات الكيميائية” بقيمة 303 ملايين دولار أو 15.5 في المئة من المجموع، فـ”المنتجات النباتيّة” (169 مليون دولار أو 8.6 في المئة من المجموع)، و”اللؤلؤ، الأحجار الكريمة، المعادن الثمينة والمصوغات” (160 مليون دولار أو 8.2 في المئة من مجموع السلع المستوردة إلى لبنان).

العجوزات السابقة

يُقرأ العجز التجاري على أنه دليل على ضعف تنافسية البلد المعني أمام المنتجات الأجنبية. وهو يؤدي إلى استنزاف احتياطات الدولة من النقد الأجنبي، وبالتالي إلى ضرورة الاقتراض من الخارج في غياب موارد أخرى تسد العجز، مثل تحويلات العمال المقيمين بالخارج أو تدفقات الاستثمار الأجنبي.

وقد بدأت التبادلات التجارية الخارجية اللبنانية تشهد تحولات عميقة منذ العام 2011 مع الأزمة السورية والتباطؤ الاقتصادي الداخلي وتقّلب الأسعار العالمية للسلع الأساسية، إلى جانب التغيرات في أسعار الصرف بين العملات الرئيسية، لا سيما تراجع العملات الأوروبية والآسيوية بالنسبة للدولار الأميركي. كما شهد الميزان التجاري تغييرات عميقة بالنسبة لدول الاستيراد مع ارتفاع نسبة المشتريات من الدول الآسيوية وانخفاض الواردات من الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وقد كان للنزوح السوري إلى لبنان تأثيرات متناقضة. إذ تراجع استيراد السلع الفاخرة بسبب التباطؤ الاقتصادي الذي خلّفته الأزمة السورية وتدهور التدفقات السياحية ومنع الدول الخليجية رعاياها من السفر إلى لبنان، في حين ازداد الاستيراد من السلع الاستهلاكية الأساسية بسبب وجود النازحين السوريين ونتيجة تأمين الكثير من الواردات إلى الأسواق السورية عبر المرافئ والحدود اللبنانية بعد إغلاق الحدود البرية غير اللبنانية وفرض حظر على الاستيراد المباشر إلى سوريا للكثير من السلع الاستهلاكية والوسيطة.

وكانت هذه الأسباب جلية في تطور العجز التجاري. فمن 12.7 مليار دولار عجزاً مسجلاً في العام 2009 (ارتفع نتيجة الارتفاع الحاد للأسعار العالمية المسجلة في تلك الفترة ولم يكن مرتبطاً فقط بالطلب على الاستيراد، علماً أن فائضًا كبيراً قابله في ميزان المدفوعات بلغ 7.9 مليارات دولار)، إلى عجز بقيمة 15.8 مليار دولار في 2011، فـ16.7ملياراً في 2012، فـ17.2ملياراً في 2013، فـ 17.1 ملياراً في 2014، ليعود ويتراجع ليصل إلى 15.5 مليار دولار في 2019، فـ9.7 مليارات دولار في 2020. وعلى رغم هذا التراجع الكبير في العجز المسجل في 2020، لكن لا يزال رقماً كبيراً لا يمكن تمويله في ظل تنامي الاحتياطات بالعملات الموجودة في مصرف لبنان.

ولوحظ في الفترة بين 2011 و2014 أن هيكلية الواردات تأثرت بتطور الأزمة السورية. فالزيادة الكبيرة في عدد النازحين السوريين ضغطت على الاستيراد اللبناني لجهة المواد الاستهلاكية الأولية التي ازداد حجمها بنسبة 6 في المئة إلى 7 في المئة سنوياً رغم تردّي نسبة النمو في الاقتصاد اللبناني. كما تشير إحصاءات إدارة الجمارك إلى أن زيادة الاستيراد تركزت في حينه على المواد الاستهلاكية الأساسية في حين أن المنتجات الفاخرة تراجع استيرادها.

لا بد أن نشير إلى أن جزءاً من العجز يرتبط أيضاً بالسلوك الإستهلاكي للمواطن، وأن إقرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 ساهم في رفع أرقامه بعدما راحت الاقتصادات الأخرى تستفيد على حساب الاقتصاد الوطني. ومثال على ذلك الارتفاع الكبير في نسبة السياحة إلى دول قريبة والتي أخرجت دولارات من لبنان فاقت المليار سنوياً.

اليوم، وبعد رفع الدعم غير الرسمي، كيف سيصار إلى ضبط الارتفاعات المنتظرة في الميزان التجاري؟

شارك المقال