الارتطام الحتمي في غياب حكومة إصلاحية

المحرر الاقتصادي

البلاد إلى مزيد من التدحرج نحو  القعر. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم بسرعة وتضع اللبنانيين في مراتب دونية من الفقر. وزير السياحة والشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال رمزي المشرفية يكشف أرقاماً صادمة عن الواقع الاجتماعي اليوم في وقت لا ترى حكومة تصريف الأعمال داعياً لكي تسرع في بت مسألة إصدار بطاقة نقدية تقي المعوزين شرّ الأعظم الآتي. يقول المشرفية في حديث صحافي “إن 5 في المئة من اللبنانيين هم أغنياء، فيما انخفضت الطبقة الوسطى إلى نحو 10 في المئة من 20 في المئة. وفي المقابل، ارتفعت نسبة مَن هم الأكثر حاجة ومن يقارب دخلهم الـ 700 ألف ليرة، إذ باتوا يشكّلون نحو 75 في المئة من اللبنانيين، بينهم 25 في المئة يعيشون في ظل فقر مدقع”.

ألا تدرك هذه الطبقة الحاكمة التي ساهمت في بلوغنا الحال التي نحن فيها، أن الطبقة الوسطى هي محرك الاقتصاد، وأن اندثارها يعني تراجع الطلب والاستهلاك والنمو، وأن قدرتها على الهجرة تفقد لبنان رأس المال البشري؟

وألا تشكل هذه الأرقام جرس إنذار لتتوقف حكومة تصريف الأعمال عن المماطلة وعن التلهي في جنس الملائكة فيما الحقيقة أنها لا تريد أن تتحمل المسؤولية بانتظار تشكيل حكومة جديدة؟

يدرك رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الواقع تماماً، وهو يختار كلماته بتأنٍ في وصفه نافضاً يديه من تحمل المسؤولية. “ونحن نجتمع هنا، في شوارع لبنان طوابير السيارات تقف أمام محطات الوقود، وهناك من يفتش في الصيدليات عن حبة دواء وعن علبة حليب أطفال. أما في البيوت، فاللبنانيون يعيشون من دون كهرباء”، أبلغ دياب عدداً من السفراء والبعثات الدبلوماسية. يعترف أن لبنان واللبنانيين على شفير الكارثة، فيما اللجنة الوزارية المكلفة بت مسألة تمويل البطاقة النقدية لا تزال تدور حول نفسها.

عندما أصدر البنك الدولي في بداية الشهر الماضي تقريره المقلق جداً والذي حمل عنوان “لبنان يغرق”، صنّف الأزمة في لبنان من بين الأزمات الأشدّ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وطرح سيناريوين لخروجه من أزمته، أحلاهما مرّ. الأول سيناريو متفائل يقترح أن يكون عام الحضيض في 2021 انطلاقاً من أن عام الذورة هو 2017. بحسب تقديرات البنك الدولي، فإن نمو الناتج المحلي سيكون سلبياً في 2021 بنحو 9.5 في المئة، فتصبح نسبة الانخفاض في نصيب الفرد من الناتج المحلي بين عام الذروة وعام الحضيض 35.1- في المئة. ويشير البنك إلى أنه في ظل هذا السيناريو، ستدوم الأزمة نحو 12 عاماً.

أما السيناريو الثاني، فهو متشائم، يفترض بأن يكون عام الحضيض في 2022. ووفق تقديرات البنك الدولي، سيشهد الناتج المحلي الإجمالي في لبنان انكماشاً إضافياً عن عام 2021 بنسبة 5 في المئة في الناتج المحلي، فيصبح الانخفاض في نصيب الفرد من الناتج المحلي بين عام الذروة أي عام 2017 وعام 2022 (الحضيض) 38.6 في المئة. وبحسب هذا السيناريو، يقدّر البنك أن مدّة الأزمة ستبلغ 19 عاماً.

سبل بناء لبنان أفضل

تقول مجموعة من الخبراء أن بناء لبنان أفضل ليس بالأمر المستحيل وأن إعادة تعافيه ممكنة جداً في حال اتخذ الخطوات المناسبة لذلك. وقد أعد هؤلاء تقريراً حمل عنوان “سبل بناء لبنان أفضل”، تم إطلاقه خلال مؤتمر افتراضي نظمته مجموعة “الاقتصاد والأعمال” بالتعاون مع “المجلس الأطلنطي” و”مركز ويلسون” و”المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية”.

وناقش التقرير الذي شارك في إعداده الاقتصادي راند غياض، وكل من ماريسا خرما وجايمس جيفري من “مركز ويلسون” وهانغ تران من “المجلس الاطلنطي”، الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية التي يعانيها لبنان بشكل حاد منذ قرابة العامين والخيارات المتاحة لوقف الانهيار الحاصل والدخول في الإصلاحات المطلوبة لوضع البلد على مسار التعافي والنهوض.

التقرير الذي حصل عليه “لبنان الكبير” يشير إلى أن جملة عوامل، على رأسها الجمود السياسي وزيادة الاختلال في ميزان المدفوعات، فضلاً عن الأزمة المالية والنقدية أدّت الى انكماش غير مسبوق في الاقتصاد وانهيار متسارع في مستوى المعيشة وإلى حرمان عدد كبير من اللبنانيين من الحياة الكريمة وفرص العمل، لافتاً النظر إلى أن الإصلاحات ستستغرق عقوداً، لا سيما أن أكثر من 55 في المئة من السكان باتوا عند خط الفقر، وأن معدل البطالة بلغ مستويات قياسية متخطياً عتبة الـ40 في المئة، فضلاً عن أن مشاركة المرأة في سوق العمل انخفضت إلى ما دون 23 في المئة. ووفق التقرير، هذا الواقع يؤدي إلى هجرة الكثير من الكفاءات وأصحاب الخبرات من البلاد ويسبّب أضراراً جسيمة تنعكس على إنتاجية البلاد. ويضيف أن لبنان يواجه تحديات ديموغرافية باعتباره يستضيف أكبر عدد من النازحين نسبةً إلى سكانه.

ويحدد معدّو التقرير الطريقة المثلى لخروج لبنان من الأزمة، معتبرين أنه في ظل عدم اليقين وغياب الاستقرار ينبغي أن يكون أي برنامج إصلاحي للبنان واضحاً وشفافاً على أن تديره حكومة إصلاحية ذات صدقية. ويسلّط المعدّون الضوء على الخطوات اللازمة والفورية التي ينبغي اتخاذها لوقف النزيف المالي للنظام المصرفي اللبناني قبل الشروع في رحلة تدريجية نحو إعادة الهيكلة والإصلاح. ويركّزون على ضرورة أن يتحوّل لبنان إلى اقتصاد يرتكز أكثر على القطاعات الانتاجية بدلاً من الاعتماد الكبير على الاقتصاد الخدماتي عبر تمكين أصحاب الأعمال وتحفيزهم على زيادة استثماراتهم في الاقتصاد وتعزيز دور رواد الأعمال وتوفير بيئة داعمة لهم.

وخلص التقرير إلى اقتراح الخطوات التالية لإنقاذ لبنان ووضعه على مسار الانتعاش:

  • تتمثل الخطوة الأولى بإعادة الثقة بلبنان عبر إعادة هيكلة القطاع المالي وحماية الفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً في المجتمع. ويشمل ذلك الاتفاق على خطة إنقاذ مالي، وإنشاء صندوق استثماري لتمويل إعادة تأهيل الاقتصاد، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاحي وإشراكه في عملية إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي.

  • تتمثل الخطوة الثانية في حماية الدخل وتأمين استمرارية الخدمات العامة، ويتضمن ذلك طلب توفير موارد مالية جديدة من صندوق النقد الدولي، مع التركيز على ترشيد حجم القطاع العام وتعزيز الضرائب التصاعدية وإصلاح قطاع الكهرباء وإعادة هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة.

  • وتتمثل الخطوة الثالثة بدعم القطاع الخاص بهدف بناء اقتصاد منتج، وذلك عبر إنشاء حاضنات وصناديق استثمار لدعم منظومة ريادة الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل ودعم رائدات الأعمال وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وإعادة تقييم مناهج التعليم والتدريب التقني والمهني وتطوير وحدات تدريبية بالتعاون مع المدارس المهنية والفنية. ويتضمن ذلك أيضاً العمل مع المنظمات غير الحكومية للاستثمار في أصحاب المهارات بين الشباب اللبناني ومعالجة الثغرات الحاصلة بين مناهج التعليم ومتطلبات سوق العمل، فضلاً عن إنشاء مناطق اقتصادية خاصة.

  • وتتمثل الخطوة الرابعة في إشراك المغتربين في الحل في لبنان، والدعوة لعقد منتدى لمغتربي لبنان يضم عدداً من المنظمات والجمعيات في الولايات المتحدة وأوروبا ودول مجلس التعاون الخليجي. وقد يتم إشراك المغتربين عبر إصدار سندات خاصة لهم تكون بمثابة عربة دعم من المغتربين لاقتصاد لبنان. وبحسب اقتصاديي البنك الدولي، يمكن لسندات المغتربين أن تدر حوالي 50 مليار دولار سنوياً في الدول النامية. بالإضافة إلى ذلك، إنشاء صندوق استثماري حاضن يمكن أن يكون وسيلة ناجحة لكي يؤمن المغتربون دعماً استثمارياً وعبر توفير الخبرة والمعرفة والتقنيات الضرورية التي من شأنها أن تدعم الشركات اللبنانية وتعيد زخمها.

كما خلص التقرير إلى أنه بهدف إنجاح خارطة طريق الإصلاح، ينبغي اتخاذ خطوات عدة منها إشراك الشركات اللبنانية الصغيرة والمتوسطة في أي حوار أو نقاش هدفه تعافي وازدهار البلاد، وإشراك المتخصصين والمعنيين في النقاشات حول إصلاح قطاعي الكهرباء والمحروقات، وتعيين أصحاب الكفاءات والخبرات في المراكز الإدارية بدلاً من التعيين القائم على أساس المحسوبيات، والعمل على زيادة الوعي بأهمية الإصلاحات وضرورتها لوقف الانهيار والدخول في مرحلة التعافي، وتفعيل المناطق الاقتصادية الخاصة التي يمكنها أن تسهل نمو بعض الصناعات.

شارك المقال