في بنزين.. لكن الحكاية بلا بنزين!

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

البنزين وما أدراك ما البنزين ومافياته الصغيرة قبل الكبيرة، والمحتكرون الكرام، استيراداً وتوزيعاً، وأصحاب محطات، يتاجرون في السوق السوداء، وحتى عمال مساكين تطاوعهم أنفسهم على “السرقة الشريفة”، بمعنى يقول لك أستاذ مع “الحلوينة” بنفول بهمس ملاك شيطاني وإلا ما منعبي بأكتر من عشرين ألفاً، وإذا أنعمت عليك الدنيا بثلاثين ألفاً، ومع التسعيرة الجديدة ارتفعت صفيحة البنزين إلى ٧٢ ألفاً فصارت النعمة بخمسين ألفاً.

ويا لسعادتك عندما يطلع علام السيارة بالخمسين ألفاً إلى “أول علامة”، فهذا يعني أنك تستطيع أن تذهب إلى مكان عملك الذي يبعد ٤٠ كلم. ولكن بهذا لن تضمن إمكانية عودتك إلى البيت مع عجقة السير التي تصادفك عند محطات الأوتوستراد الساحلي.

المشكلة الأكبر أنك إذا أردت أن تتذاكى وتدخل في الطرق القديمة الموازية للأتوستراد، فإنك لن تستطيع المرور بسبب كثافة السيارات التي تهرب من العجقة، فتقع في فخ الدهاليز طرق فرعية ضيقة تضيق صدرك مع ارتفاع حرارة الطقس، ولأنك نبيه، فأنت تريد أن توفر على نفسك، فلا تشغّل مكيف السيارة حتى لا يزيد مصروف البنزين ولا بأس إن احترقت من “الشوب”.

فجأة يخطر على بالك ماذا لو وصلت البيت ولم يكن هناك كهرباء دولة أو موتور وليس هناك ماء ساخنة في القازان لعمل “دوش”، وهنا تقع في حيرة ما بعدها حيرة سيكون عليك الانتظار ساعات حتى تستطيع الراحة وربما حبتي بنادول تزيلان همومك وتعبك ووجع رأسك، لكن عليك توفير هذه الحبوب حتى تكثر آلامك ولا تستطيع تحمل أوجاعها، عملا بالمثل القائل آخر الدواء الكي.

سأعرض عليكم تجربة محاولتي ملء خزان السيارة بالوقود، اليوم كانت سيارتي “منشفة” على الآخر، سألت أي محطة في بلدتي حتى أملأ خزان البنزين، دلوني على محطة قيل إنها تفتح في الثامنة والنصف صباحاً، استيقظت في الخامسة والنصف، لم أشرب قهوتي ولم أرتب نفسي وخرجت مباشرة من المنزل وجدت صف السيارات جاهزاً، وكان هناك شابان ينتظران داخل المحطة يجلسان على حافة الحائط الصغير، سألت قال لي أحدهما: صفي السيارة وانتظري معنا، وكانت أبواب المحطة مقفلة، فأُفدت أنه يمكن خلال نصف ساعة أملأ سيارتي وأمشي إلى العمل، وهما مثلي يعملان في بيروت، المهم أن يأتي صاحب المحطة في الوقت المناسب، قلت لا بأس أنتظر.

هناك من أوقف سيارته في الليل قبلي أو عند الصباح الباكر. أولاد الحي صاروا يصفون سياراتهم على أبواب المحطة ويعبئون قبل السيارات التي تمر وتقف تلقائياً في الصف، إذ أصبح الصف في طابور البنزين عادة للبعض حتى وإن كانت سياراتهم “مفوّلة”، ولا تحتاج للتعبئة إلا بـ٥ آلاف أو ١٠آلاف حتى تفوّل، لكنها رغبة اللبناني في السيطرة على الوضع، شطارة وتشبيح.

إقرأ أيضاً: غيث المصري … شهيد “البنزين”

ونحن نقف عند أبواب المحطة أفاق أول عامل من الذين ينامون في المحطة، سألته متى يبدأ العمل قال حسب قرار “عفيف” اسم وهمي حتى لا أُتهم بالقدح والذم، “ممكن ٩ أو ٩ ونص تقريباً”، قلت في نفسي لا بأس انتظري فلا خيار أمامك إلا الانتظار.

حاولت الاستسفار أكثر هل في المحطة بنزين أم تنتظر وصول شاحنة محروقات للتعبئة، أجاب: “لا يوجد”، مستغربة سألت من جديد: “إذا لمَ لا تبدأ بالعمل”، أجابني: “لأن مفاتيح إدارة الماكينة عند المعلم”.

يرد أحد الشابين: شاهدناه كأنه ذاهب إلى صيدا. رد الشاب الآخر: عنده خيل بينزل يطل عليها، ثم يذهب للسباحة وبعد ذلك يعود للبيت لأخذ حمام وترويقة ثم يأتي إلى العمل.

أرد متذمرة: أوف ولماذا لا يعطي لكم المفاتيح”؟

يأتيني الجواب دفاعاً: “لأن المحطة باب رزقه، ويتولى أمرها بنفسه في هذه الأوقات الحرجة. في الأحوال الطبيعية ممكن أن يقوم العمال بالمهمة، لكن اليوم عليه مراقبة العمل حتى لا يُسرق”.

المهم مر الوقت حتى العاشرة وعفيف لم يعبر الطريق، ومع الوقت كان الطابور يطول والمتسلون معنا من الزبائن الوافدين للاستعلام يزدادون والسؤال البديهي متى يأتي عفيف.

أخيرا عند العاشرة والربع عبر عفيف، أشار بيده من الرانج روفر الفاخر وأكمل طريقه، وأوضح العمال الذين كانوا يأتون واحداً بعد الآخر: “توجه نحو منزله”. التقديرات الأولية للمنتظرين أن “عفيف سيعود خلال عشر دقائق بعد أخذ دوش عالماشي”.

منية النفس تتحقق وأنا كنت قد بدأت أشعر بعياء شديد، وعيناي كادتا تغفوان، يأتي صبي سوري يعرفني من محطة أخرى يقدم لي فنجان قهوة، أشكره قال لي “نقلت عملي إلى هنا لأن صاحب المحطة القديمة لم يكن يدفع لي أجراً”.

ربما كان هذا الطفل يكتفي بالحصول على البخشيش أثناء عمله في خدمة الزبائن، فالفتى الصغير أفادني في مرة سابقة أن والده متوف وهو يعمل لإعالة والدته وأخواته الأربع.

متى يأتي عفيف؟ الكل عينه على الطريق. وبين مرة وأخرى يصرخ أحدهم جاء. ليتبين أنه لم يكن هو، أخيراً وصل. بدأت الاستعدادات، الكل ذهب إلى سيارته، أنا طمعت في تفويل السيارة وتحدثت إلى العمال لأني سمعت أن هذه المحطة عم تفوّل، لكن تبين أنها تفول لمن يستسيغه صاحب المحطة وعلى علاقة شخصية أو صلة قربى في بلدة اتفقت فيها كل المحطات كما تم التداول على التعبئة بخمسين ألفاً فقط، لكن الحرية متروكة لأصحابها في البيع بالسوق السوداء غالونات بسعر مضاعف مرة أو مرتين بشكل علني، ويتم تداول أسماء المحطات التي تقوم بذلك دون أن تردعهم الجهات المعنية عن التجارة السوداء في الزمن الأسود.

أبلغني أحد العمال الذين طاب له الحديث معنا أن صاحب المحطة لن يعبئ خزانات الموتوسيكلات، وقد اتخذ قراراً حاسماً ولن يعبئ الغالونات مهما كانت واسطة صاحب الغالون، وهو يرفض بالمطلق أن يستقبل من يتجاوز دوره في الطابور ويعمل على تحييده وكذلك لن يرضى أن يعبئ خزانات سيارات أجرة لأن أصحابها يملاؤن خزاناتهم ثم يفرغونها ويبيعونها في السوق السوداء، ويعودون لملئها من جديد بحجة أنهم صرفوا البنزين اثناء عملهم.

إقرأ أيضاً: أزمة البنزين واذلال اللبنانيين مستمران

وكم سررت أنا من هذا الواقع أمامي، عشر سيارات فقط، فجأة يدخل صاحب تاكسي من طريق معاكس، تتبعه سيارة صديق صاحب المحطة، وفتاة شابة لم تنتظر خمس دقائق في الصف، وتهجم الموتوسيكلات داخل المحطة، وسيارات تملاأ داخلها خزانات بنزين.

واوووو ما هذه الحالة، صبرت لكي أنال البنزين، وقلت في نفسي يللا الآن أفوّل. وصل دوري ومنعت سيارة مخالفة يتباهى صاحبها بأن عفيف ناداه لإدخال سيارته، لكني قلت له الآن الساعة الحادية عشرة وأنا هنا منذ السادسة صباحاً والآن دوري ولن أتخلى عن حقي، فكنت أسرع منه، لكن شطارتي لم تفد لأن عفيف رفض أن يملأ خزان السيارة بس بخمسين ألف مدام، ليوضح أحدهم في اتفاق مع البلدية، قلت في نفسي والله البلدية عم تشتغل يعني.

عاندت قليلاً لكن لم ينفع الأمر ولا الشرح، فانطلقت نحو محطة أخرى لعل وعسى، شاهدت رجلين كانا قد ملآ غالونات بنزين في المحطة التي كنت فيها، وهما يملآن الآن غالونات جديدة، قلت جيد يوجد بنزين يعني.

جاء العامل في المحطة، مدام امشي هلق بيصير في صف وراك، قلت أريد تعبئة السيارة قال ما عنا بنزين، نظرت إليه مدهوشة وماذا في الغالونات ماء زمزم أم عصير تفاح أم عرق بلدي؟ ليرد علي: البنزينات للبلدية متفقين معهم؟؟!!!

شارك المقال