أنهى حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري الشهر الأوّل من حُكمه مُتمسّكاً بشرطه الرافض إقراض الحكومة من الاحتياطي الالزامي لـ”المركزي” إلاّ بموجب قانون صادر عن مجلس النواب وذلك لحماية ما تبقى لديه من الاحتياطات النقديّة. هذا التحوّل الرئيس في مسار السياسة النقديّة المُتّبعة والتي وجّه الكثيرون إليها أصابع الاتهام مُحمّلين إيّاها مسؤوليّة الانهيار الاقتصادي والمالي الذي وصل إليه لبنان، أعاد تسليط الضوء على دور الحكومة ومدى التزامها بتمويل نفقاتها من خلال تأمين الايرادات اللازمة والشروع في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة التي لا تزال قابعة حتى اليوم في درج الانتظار.
وعلى الرغم من أنّ إقراض الحكومة من مصرف لبنان نصّ عليه قانون النقد والتسليف الذي أشار إلى أنّه في حال احتاجت الحكومة إلى أموال لسدّ عجز الموازنة، تطلب الاستقراض من “المركزي” بالعملة الوطنيّة بنسبة لا تتجاوز الـ10 في المئة من الموازنة وذلك لفترة 6 أشهر بالليرة اللبنانيّة، ويمكن لمصرف لبنان أن يمنح القرض المطلوب للحكومة فقط في حال إثبات عدم وجود أي خيار آخر، إلّا أنّ الحكومة تمتلك خيارات بديلة ولديها مصادر تمويل كافية تؤهّلها للتوقّف عن طلب الاستدانة الدائم من “المركزي”، اذ تستطيع تأمين العملة الصعبة من خلال تحسين قدرتها على جني الايرادات وفق خطة اقتصادية إنقاذيّة، وهي ليست بحاجة إلى عمليّات اقتراض من أجل تغطية احتياجاتها ومُستلزماتها من أجور ورواتب ودواء وكهرباء وغيرها.
على صعيد الايرادات، تمتلك الدولة الكثير من الموارد التي تعود بأموال طائلة على خزينتها، ويتطلّب ذلك منها أوّلاً استرجاع قرارها وتطوير مؤسساتها وتحسين عائداتها وذلك عبر اتخاذ خطوات فاعلة تهدف إلى إغلاق مزاريب الهدر والفساد وإعادة هيكلة القطاع العام ومعاودة العمل في الادارات العامة المدرّة للأموال والسعي إلى تحسين الجباية وتحصيل الضرائب ومكافحة التهرب الجمركي المُقدّر بحوالي مليار و100 مليون دولار، بالإضافة إلى ضبط التهريب عبر الحدود والمعابر البريّة، وزيادة الرسوم على الأملاك البحريّة التي لا تقلّ ايراداتها السنويّة عن 500 مليون دولار، واعتماد نظام ضريبي أكثر عدالة وفاعليّة من أجل الحدّ من التهرّب الضريبي. فخلال سنوات الأزمة، تراجعت نسبة الايرادات الضريبيّة في لبنان من 15 في المئة عام 2018 إلى 8.5 في المئة من حجم الناتج المحلّي. هذا المستوى المُنخفض يدعو إلى ضرورة القيام بهيكلة النظام وإجراء الاصلاحات الضربيبة من أجل تقليص الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية واستعادة الثقة المفقودة بين المواطنين والدولة.
فضلاً عن ذلك، تمتلك الدولة العديد من المرافق العامّة المُربحة أهمّها مطار رفيق الحريري الدولي الذي يُدخل كميات هائلة من الدولار “الفريش” بقيمة تبلغ حوالي 250 مليون دولار سنويّاً. أضف إلى ذلك، ايرادات المرفأ الناجمة عن استيفاء الرسوم الجمركية والضريبية والتي توفّر أيضاً مبالغ طائلة بالعملة الصعبة يُهدر القسم الأكبر منها في عمليات سرقة واختلاس للمال العام من دون حسيب أو رقيب وأدّت على مدى سنوات إلى خسارة الخزينة ايرادات باهظة وأسهمت في زيادة العجز في الموازنة العامة.
لا شك في أنّ الدولة اللبنانيّة غنيّة بالكثير من الموارد التي تروي خزينتها العطشى بمليارات الدولارات، غير أنّ تعمد غض النظر عنها أسهم في حرمان الاقتصاد من جرعات أوكسيجين وزاد من عبء ترددات الأزمة على كاهل اللبنانيين. فالدولة، وعوض القيام باجراءات اصلاحيّة ضرورية لتحسين مستوى الايرادات، لجأت إلى اعتماد سياسة الاقتراض من مصرف لبنان لتمويل نفقاتها من جيوب المواطنين سواء عبر استخدام مخزون الاحتياطي المُستنزف أو من خلال رفع سعر الدولار الجمركي وفرض ضرائب جائرة في حقهم كما حصل مع إقرار موازنة العام 2023.
منذ أكثر من أربع سنوات، تسير الدولة في مسار “إنهياري” شامل جرّاء تقاعس الطبقة السياسيّة الحاكمة عن إقرار البرامج والخطط الاصلاحية الضروريّة. فلبنان يحتاج إلى ورشة إصلاحيّة تهدف إلى تفعيل الانتاجيّة وتحسين ماليّة الدولة وتفعيل الامتثال الضريبي وترشيد الإنفاق وتقليصه لا سيما السياسي منه. ويبقى مفتاح الحل الجذري سياسياً بالدرجة الأولى ويتمحور حول الاتفاق على انتخاب رئيس جديد قادر على إنقاذ الجمهوريّة وإعادة وضع البلاد على سكّة النهوض والتعافي، إذ إنّ تنشيط العجلة الاقتصادية هو المدخل الرئيس لزيادة الايرادات وبالتالي معالجة عجز الموازنة التي بدورها تُشرّع الباب أمام عودة النمو والاستقرار والازدهار.