القطاع العام… حلول ترقيعية ورواتب بلا قيمة

هدى علاء الدين

منذ تشرين الأول 2019، خسرت الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها، ما أضعف قدرة الموظفين الشرائية ولا سيما في القطاع العام على الحصول على السلع الأساسية كالطعام والمسكن والرعاية الصحية، وأصبحوا عاجزين عن تسديد أقساط القرض المصرفي والمدارس والجامعات ودفع فواتير الكهرباء، ليقتصر مصروفهم على تأمين القوت اليومي عبر شراء بعض المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها بنسبة كبيرة وصلت إلى 500 في المئة.

لا إحصاء رسمياً دقيقاً حول عدد العاملين في مؤسسات الدولة لأسباب عدة منها اختلاف الأرقام بين وزارة المالية ومجلس الخدمة المدنية وتعدد التسميات الوظيفية وطرق التوظيف، إلا أن عدد العاملين في مؤسسات الدولة وفق دراسة حديثة وضعتها الدولية للمعلومات يبلغ نحو 320 ألفاً يتوزعون كالآتي:

– 120 ألفاً في القوى الأمنية والعسكرية من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة وشرطة مجلس النواب (67 في المئة)، 40 ألفاً في التعليم الرسمي (19 في المئة)، 30 ألفاً في الوزارات والإدارات العامة (14 في المئة)، في حين يبلغ عدد الموظفين في الملاكات الدائمة حوالي 9800 موظف فقط.

– 130 ألفاً في المؤسسات العامة والبلديات، ويضاف إلى هؤلاء نحو 120 ألفاً من المتقاعدين أكثريتهم من العسكريين والمدرسين، ما يعني أن نحو 320 ألف مواطن يتقاضون رواتب من الخزينة العامة.

اجتماع بعبدا الذي أقر دعم موظفي القطاع العام عبر تعديل تعويض النقل وزيادته من 8 آلاف ليرة إلى 24 ألفاً عن كل يوم حضور فعلي، وإعطاء مساعدة اجتماعية طارئة بما يساوي أساس الراتب الشهري أو الراتب التقاعدي، من دون أي زيادات مهما كان نوعها أو تسميتها، تسدّد على دفعتين متساويتين نهاية أيلول ومنتصف تشرين الأول المقبلين، سيستفيد منها حوالي 250 ألف موظف وسيكلف الخزينة أكثر من 700 مليار ليرة.

حلول ترقيعية

واعتبر أستاذ السياسات العامة والتحديث الإداري في الجامعة اللبنانية الدكتور برهان الدين الخطيب، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن القرار الاستثنائي الذي صدر حول التغطية على سعر 8000 ليرة والتقديمات للقطاع العام لن يحلّ الأزمة بل سيفاقمها لأن الحلول الترقيعية لا تنفع، معتبراً أن الحل الوحيد للأزمة يكمن في الاسراع في تنفيذ البطاقة التمويلية والاستيراد من دون أي دعم وفق الأسعار العالمية ووقف سياسة الاحتكار في مختلف القطاعات ودعم القطاع العام بشكل دائم وليس عبر حلول جزئية.

وأشار الخطيب إلى أن نسبة موظفي القطاع العام تعكس تضخماً كبيراً، ولا يُقصد هنا موظفو الملاك حيث تعاني الوظائف الدائمة من الشغور الكبير في ملاكاتها وإنما التسميات المتنوعة التي تم ذكرها أعلاه، إذ تبلغ نحو 30 في المئة من حجم القوى العاملة في لبنان، في حين أنها تبلغ 20 في المئة في فرنسا (وهو الرقم الأعلى أوروبياً) ولا تزيد عن 14 في المئة في ألمانيا و6 في المئة في اليابان.

وعن تأثر القطاع العام بالأزمة الاقتصادية والمالية وكيفية انعكاسها على سير العمل في القطاع، يقول الخطيب: “على الرغم من أن معظم الإدارات العامة تعتمد نظام المداورة بسبب انتشار جائحة كورونا (حضور 3 أيام إلى مركز العمل)، إلا أن الارتفاع المتوقع على سعر صفيحة البنزين إلى حدود 336 ألف ليرة سوف يؤدي إلى وضع جزء كبير من القطاع العام أمام واقع مرير يتمثل في عدم قدرة الموظفين على مزاولة أعمالهم بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى مراكز عملهم، ولا سيما أن كلفة النقل بين أجرة تنقلات بسيارات الأجرة ومصروف محروقات ستستحوذ على ثلث أو نصف الراتب الشهري تقريباً، علماً أن الحد الأدنى الرسمي للأجور لا يزال عند 675 ألف ليرة. كما أن الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات تعاني اليوم من عدم توفر المازوت للإنارة وتعطل تجهيزات العمل وانقطاع القرطاسية، فضلاً عن عدم جاهزية الإدارة العامة وعدم قدرة الموظفين للعمل عن بُعد لأسباب عديدة. والأخطر من كل ذلك، هو الآثار النفسية التي يعاني منها الموظفون بسبب الضغوط المختلفة”.

إدارة “سيئة”

أما عن مساهمة سلسلة الرتب والرواتب وزيادة أجور القطاع العام في 2017 في تسريع عجلة الانهيار، يشير الخطيب إلى أنه “مع إقرار سلسلة الرواتب (زيادة الرواتب)، كانت كلفة العاملين في القطاع العام نحو 8300 مليار ليرة (نحو 5.3 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي 1500). وبعد إقرار السلسلة وإجراء توظيفات جديدة لنحو 9 آلاف موظف وزيادة الرواتب بفعل زيادة سنوات الخدمة، أصبحت كلفة رواتب وأجور العاملين والمتقاعدين حالياً نحو 12 ألف مليار ليرة سنوياً، أي نحو 1000 مليار ليرة شهرياً، وهذه الكلفة المرتفعة تشكل نسبة 86 في المئة من إجمالي واردات الدولة اللبنانية البالغة نحو 14 ألف مليار ليرة، حسب الدولية للمعلومات”.

ويوضح: “وتستحوذ سلسلة الرتب والرواتب ونظام التقاعد على 28 في المئة من مجمل الانفاق العام، وتستأثر أجور الأسلاك العسكرية بثلثي هذا الانفاق من دون معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة. فالمشكلة في السلسلة تكمن في أن مجلس الوزراء توقع أن تكون كلفة السلسلة 800 مليون دولار ليتبين لاحقاً أن كلفتها عادلت ضعف الرقم المتوقع (على سعر 1500 ليرة للدولار اليوم تراجع هذا الرقم كثيراً لان السلسلة تدفع بالليرة اللبنانية)”. وحسب الخطيب، فإن سلسلة الرتب والرواتب ليست السبب الأساسي بل المشكلة في إدارة السلطتين التنفيذية والتشريعية لهذا الملف.

البطاقة التمويلية

هل حان وقت رفع الأجور وتصحيح الرواتب، وكيف لدولة تعاني من شح في مواردها وعجز في ماليتها العامة من التعاطي مع هكذا أزمة؟ يجيب الخطيب: “حفاظاً على حسن استمرار وانتظام المرافق العامة لا بد من وضع دراسة علمية لسلسلة الرتب والرواتب تراعي حاجات الموظفين والإمكانات المالية للدولة والاستفادة من الأخطاء والخطايا التي ارتكبت عام 2017 لجهة عدم وجود دراسة دقيقة للكلفة والزيادة في وضع نسب مرتفعة. لذا، لا بد من وضع سلسلة رواتب متدرجة على سنوات تواكب إعادة النهوض في لبنان لأن الغاية ليست إعطاء الموظف من يد والأخذ منه باليد الأخرى”.

ويتابع: “على أمل أن تساهم البطاقة التمويلية في تخفيف الأعباء والمتطلبات المعيشية، إلا أن التجربة مع هذه السلطة في إدارة الملفات المعيشية غير مشجعة انطلاقاً من تحديد المستفيدين مروراً بآليات التوزيع ووصولها للمستفيدين الحقيقيين الأكثر حاجة. فاليوم، غالبية الشعب اللبناني أصبحت بحاجة للبطاقة التمويلية بنسب متفاوتة، إذ سيكون لها آثار إيجابية على الاقتصاد بحيث إن صرف هذه الكتلة النقدية سيحرك السوق التجاري الذي يعاني من الانكماش”.

وفي حال استمرار الأزمة، تخوّف الخطيب من “عدم بقاء الموظفين في الإدارة العامة وازدياد وتيرة هجرة الأدمغة ولا سيما الأكفاء من جميع الأسلاك بحثاً عن فرص عمل أفضل، وخاصة أن الاستقرار لم يعد متوفراً في لبنان. وهنا تجدر الإشارة إلى أن موازنة عام 2019 منعت موظفي الدولة من الاستقالة، وإن أقدموا عليها فإن ذلك يعني تخليهم عن تعويضهم والراتب التقاعدي الذي يحصلون عليه، ويبقى هذا القرار ساري المفعول حتى عام 2022، أي تجميد طلبات نهاية الخدمة بشكل كامل”.

الإصلاحات

أما الإصلاحات المطلوبة، فتضمَن حسب الخطيب، “الحد من التدخل السلبي للسياسة والطائفية في الإدارة، الاستغناء عن الوظائف والموظفين غير المنتجين، وضع سياسة علمية لحقيقة حاجة القطاع العام للموارد البشرية وإعادة هيكلة القطاع العام وفق الحاجات الحقيقية والموارد المتوافرة (ترشيق القطاع العام)، تغيير ذهنية المواطن اللبناني باعتبار الوظيفة في القطاع العام هي خشبة الخلاص وخلق فرص عمل ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وضع توصيف وظيفي تحدد على أساسه الرواتب والحوافز للموظفين، وتعزيز دور أجهزة الرقابة ولا سيما مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي”.

ويختم: “وضع سياسة علمية لتصحيح الرواتب بشكل لا تؤدي إلى زيادة التضخم مقابل زيادة متدرجة دورية، وإعادة دراسة وتطوير نظام الحقوق والواجبات الذي نص عليه المرسوم الاشتراعي 112/59، وإقرار البطاقة التمويلية كبديل عن الدعم العشوائي”.

شارك المقال