خاص

“الحرباية” وتأزم العلاقة بين المنطق والشعبوية

مع اقتراب الموعد غير المؤكد للانتخابات النيابية، تزداد الخطابات إبداعاً، وآخرها خطاب رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل خلال احتفال للاعلان المبدئي عن مرشحي التيار في بعض المحافظات اللبنانية. موضوع الخطاب، “الألوان” جملة وتفصيلاً في الشكل وفي المضمون لتمرير رسائل فيها ما فيها من الشعبوية والأفلاطونية مع لمسة تكاد تقترب من حافة الثقافة مع الإشارة السطحية إلى عالم ابن المقفع، وتحديداً “الحرباية”، لاتهام “الآخر” من دون تحديده بل ومع تشويهه برسائل غامضة، وتحميله كل المسؤوليات، مع الإصرار كالعادة على لعب دور الضحية.

لكن “الحرباية” لم تنسحب فقط على المفردات بل توارت في التنظيم والديكور بقصد أو بغير قصد، حتى طغى اللونان الأصفر والأزرق على البرتقالي المعهود، مع الاحتفاظ بحق “المتلونين” بالرد.

من ناحية الخطاب، نماذج تقليدية للاعلانات عينها والتي قد تحاكي بأفلاطونيتها من أعماه المنطق عن التصنع والتلون الفاشل بألوان النجاح. وقبالة “حرباية” الآخر، يصوّر باسيل نفسه بترقيق تارة وبتفخيم طوراً. فهو الضحية التي تجمهر العالم للغدر بها بعد أن وقف موقف الشجعان مع كل الأطراف: “مددنا يدنا للجميع بالتفاهمات من مشروع إصلاحي وتسلقوا على أكتافنا في انتخابات العام 2018 وعندما حان موعد المواجهة هربوا من التكتل مثل الحراميي بالليل”… وهو “النظيف” الذي تتحداه دول المعمورة بدولاراتها وهو “المنير” الذي يحمل مفاتيح الفرج والذي تعاكسه كل الأهواء: “سنذهب إلى الانتخابات متسلحين بنظافتنا فيما هم ينجرون إليها بالمال السياسي ونحن ضحية استهدافهم. نحنا صمدنا وكهرباء بدنا نجيب، وسدود بدنا نعمّر ونفط وغاز بدنا نستخرج ونصدّر أموال بدنا نسترد نظام بدنا نطوّر ودولة بدنا نبني”.

صاحب الرؤى الهادفة “صيد” ثمين، لا بل “كبش فداء” لكل المتلونين… هو الذي يخال لك أنه لم يغير جلده يوماً… ولكن أليست “الحرباء” أشهر من تمتلك آلية “التلون” الدفاعية؟ صوّر جبران نفسه صادقاً بمواجهة “الكاذبين”، لتبدو الانتخابات فرزاً بين الخير والشر. ولكن أليس تلوناً “التحالف الانتخابي” مع الوعد “بالحرية السياسية”؟ أما ثبت أن البرتقالي رهن الحرية بتعداد الأصوات على مدى الأعوام الماضية؟ أما صادر القرار وصولاً إلى مصادرة الحقيقة؟ أليس تلوناً الجهر بـ” تحييد لبنان المشرقي العربي”، بينما ينغمس أبناؤه غصباً في صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ وماذا عن صفقة الترسيم؟

وبالكاد يخرج الديكور عن الدلالات عينها، فالأزرق الطاغي يحدث بالتلون بإرث أزرق عرف بالصدق والتضحية الحقيقية وأشعل برحيله ثورة لن تخمد نارها أبداً، لا بل وتشتعل أكثر من أي وقت مضى في القلوب المتألمة لانهيار لبنان وتشرذم الهوية المتنوعة. أما الرسالة الثانية ففي الأصفر الفاقع الذي ارتدته عريفة الحفل… رسالة تلون جديدة لحزب ربط اسمه بتقديم السلاح على كل اعتبار. فلا يجاهرن أحد بالصدق قولاً… فلنعد إلى الأفعال.

ومن قال ان “الحرباية” إهانة؟ أليست “الحرباية” من تتلون لتنأى بنفسها عن الخطر؟ وفي ذلك حياد… وأليست “الحرباية” من أنعم الخلق عليها بطيف من التدرجات التي تجعلها تندمج في كل الأمكنة؟ وفي ذلك تنوع؟ أليست “الحرباية” كـ”موزاييك” الهوية اللبنانية الراسخة على ألوان الطوائف والحضارات المتعاقبة بأغنى ما فيها؟ وأليست “الحرباية” ذلك الكائن الضعيف الذي يفتقر الى الأنياب؟ “حرباية” فإذا، إذا اختلف السياق وتلون الكلام… فلتكن “الحرباية” من تسر الناظر بألوانها وتأسره بغموضها، على أن تكون “الجربوع” الذي ينوع مداخل بيته ومخارجه بما يرضي مصلحته ولو على حساب الآخرين.

وفي كل الأحوال، لا يغامرن أحد كثيراً بالتلويح بالتشبيهات… فإن صدق الخطاب في ذكر “الحرباية”، ففي موضع واحد يعتبر فيه البرتقالي شريكاً… لقد تملكت “حرباية” انطوائية روح لبنان وجسده وأدخلته شقوق العزلة والضعف.

زر الذهاب إلى الأعلى