خاص

حزب الله “ينتخب” مبكراً… نحن هنا !

هل بات لبنان أمام جمادين، جماد في القمة لا يخجل ولا يرفق ولا يشبع، وجماد في القاعدة لا يثور ولا ينتفض ولا يحاسب؟

الواضح أن الأمر صحيح، ولا يقبل أي تأويل أو تعمية أو تهرب، فمن يسكن في السلطة يؤمن بأنه قادر على القيام بأي شيء والوصول الى أي شيء من دون أي خوف أو توجس، لا من شارع ولا من جيش ولا من قضاء، ومن يسكن القاعدة بات يؤمن بأنه لا يملك الا واحداً من أمرين: اما الخضوع والتسليم بما كتب عليه واما الهجرة بأي ثمن …

وقد يسأل سائل ماذا أصاب الحس الثوروي الذي طالما كان صفة مميزة من صفات اللبنانيين، وأين هي الأحزاب والقيادات التي قامت على أساس شعارات سيادية وشعبوية ووطنية واجتماعية وسواها؟

لا شك أن لبنان الذي كنا نعرفه، بات جزءاً من التاريخ، وأن الشعب الذي كان ما كان عليه، بات جزءاً من الشعوب العربية التي تفصل بين لقمة العيش، وأداء السلطة، وتعتبر أن التمرد أو العصيان ليس الا نوعاً من العبثية في أفضل الأحوال أو نوعاً من الانتحار في أسوأ الأحوال.

وهنا لا بد من سؤال آخر، ماذا أصاب الشعب الذي نزل الى الساحات في “الرابع عشر من آذار” أو الشعب الذي نزل اليها في “السابع عشر من تشرين”، وهل لا يزال في الإمكان تكرار ما حدث في الحالتين؟

الواضح حتى الآن، أن قبضة السلطة نجحت في ترويض ارادة القاعدة التي فقدت أي رغبة في الثورة وأي أمل في أي مخرج قد يأتي من الداخل أو أي منقذ قد يأتي من الخارج.

والواقع أن لبنان لم يشهد في تاريخه هذه الطينة من الحكام الذين تجمعهم التبعية والفساد والمحاصصة وقلة الحياء، وهذه الطينة من الناس الذين يجمعهم اليأس والاستسلام وقلة الحيلة، ولم يحدث في تاريخ لبنان أن يصبح الدستور كتاباً منسياً، وأن تصبح الديموقراطية نظاماً شكلياً، وأن يصبح الحكم باسم الشعب حكماً على الشعب.

كان يقال في زمن الحرب اللبنانية، ان مرحلة ما بعد الحرب يجب أن يديرها أمراء الحرب ولو من دون سلاح، لكن أحداً لم يقل ان من يدير جبهة أو شارعاً يستطيع أن ينتقل من ذهنية الآمر الناهي الى ذهنية الشريك عندما يجلس الى طاولة تعتبر كل جالسيها مجموعة من “المنتصرين” الذين وضعوا أسلحتهم تحت الطاولة لا فوقها في انتظار ما يضطرهم يوماً الى سحبها عندما تتعارض المصالح أو تتغير التحالفات وتتلون الولاءات أو عندما تقل المداخيل والحصص، أو تتراجع مقومات التأثير والنفوذ.

وقد فهم النظام السوري هذه المعادلة، فتبناها في شكل دقيق وأخرج من زواريب الحرب نواباً ووزراء ومدراء وقادة لا شغل لهم الا تشريع الاحتلال وتكثيف الثروات، وهو ما فعله “حزب الله” بعد خروح الجيش السوري من لبنان، مع فارق وحيد يتمثل في ادارة اللعبة لمصلحة ايران أولاً وقوى الممانعة ثانياً.

وما يجمع بين النظام السوري و”حزب الله” هو أن الاثنبن لا يعترفان بلبنان دولة ديموقراطية متنوعة لا تشبه حكم الرجل الواحد في دمشق وحكم الملالي في طهران، ولا يتماهيان مع الموجات التحررية والتغييرية من أي نوع كانت، وهذا يفسر ما حدث في غزوة “السابع من ايار” وفي غزوات “السابع عشر من تشرين” وفي الاستبسال الشيعي – العلوي لحماية النظام الحاكم في سوريا.

وأكثر من ذلك، أخذ “حزب الله” من النظام السوري، نظرية “التحرير” والعداء مع اسرائيل، ليبقي على سلاح يستخدمه للتحكم بمفاصل السلطة في لبنان، وتفكيك مقوماتها وتذويبها في محور ايران مرة من خلال الغزوات ومرة من خلال التحالفات غير المتوازنة وفي مقدمها “تحالف مار مخايل”… من هنا يمكن فهم الأسباب التي دفعت حسن نصرالله الى عرض ما لا يملك سواه، أي ترسانته الصاروخية الجديدة، عشية انتخابات نيابية غير مضمونة، وفي عز مفاوضات دقيقة في فيينا تحتاج فيها ايران الى جرعة ضغط أمني تعتقد أنه قد يأتيها بتنازلات يعتد بها من الأميركيين المنشغلين بأزمة أوكرانيا في أوروبا وأزمة تايوان في آسيا …

والواضح أن “حزب الله” يستعد لحرب لا يريدها ولا يريد التورط في ما يمكن أن يسقط القرار ١٧٠١، وهو القرار الذي سمح له بالانصراف الى أمور الداخل سعياً الى بسط مشروع الجمهورية الاسلامية العتيدة.

وما قصده حسن نصرالله، لم يكن موجهاً في العمق الى اسرائيل التي يعرف أنها تحسب له حساباً لكنها غير عاجزة عن ردعه، بل قصد أمرين: الأول ترتيب أمور البيت اللبناني، بعدما فقد الرجل الكثير من رصيده الشعبي، وبعد سلسلة سقطات أمنية في كل من خلدة والطيونة ورشميا، وبعد تراجع حليفه المسيحي “التيار الوطني الحر”، وتصاعد النزعات التحررية في البيئة الشيعية، والثاني اثارة جلبة في فيينا تخيّر الاميركيين المعاندين ، سواء في الكونغرس أو في الادارة، بين رفع العقوبات ورفع الأغطية عن منصات الصواريخ الموجهة نحو أكثر من جبهة.

وهنا لا بد من السؤال، هل نجح حسن نصرالله في اطلالته الاخيرة في تحقيق ما أراده سواء في الداخل أو في الخارج؟

الجواب أتى على لسان المواطنين اللبنانيين الذين روّعهم الطيران الحربي الاسرائيلي الذي كاد يلامس سطوح الضاحية الجنوبية، وعلى ألسنة الصقور في الكونغرس الأميركي، وحكام الخليج الذين يرفضون تحرير ايران من حصارها قبل تحريرهم من نيرانها.

والجواب الأخر جاء، عبر حقيقة ساطعة، تفيد أن ذريعة الحرب ضد اسرائيل وذريعة السلاح من أجل تحرير الأرض، قد سقطت في شكل دراماتيكي، في وقت باتت اسرائيل ترابط عسكرياً على حدود ايران، وفي وقت توزع العرب على ثلاث جبهات: جبهة المقاتلين الذين اختاروا السلام مع تل أبيب، أي مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وجبهة الماضين الى التطبيع، أي البحرين ودولة الامارات والسودان، وجبهة المنفتحين علناً، أي سلطنة عمان والمغرب وموريتانيا.

وأخيراً، لا بد من سؤال جوهري، هل يؤمن “حزب الله” حقاً، بأن اللبنانيين يصدقون كل ما يقوله عن أن توازن الردع أو الرعب هو الذي حرر الجنوب من خلال العبوات وحرب العصابات، وهل يصدق أنهم لن يبحثوا عن أي وسيلة تحررهم من سلطة السلاح وتأخذهم الى سلطة الدولة ولو من خلال صناديق الاقتراع؟

الجواب ليس صعباً، فما عرضه حسن نصر الله، جاء في جزء كبير منه انطلاقاً من أمرين مقلقين: اتجاه الناس الى اختيار ممثلين لا يدورون في فلكه، وتصاعد التأثير الاميركي في بيئة الجيش من جهة والبيئة الانتاجية في أكثر من منطقة لبنانية، وجاء أيضاً انطلاقاً من شعار نحن هنا، أو على الأقل ما زلنا هنا.

ويقول أحد المقربين من “حزب الله”، إن حسن نصر الله يؤمن بأن فرصة الانقضاض على لبنان المفلس والمهترئ قد اقتربت، وانه لن يتوانى عن أي شيء يمنع الناس من العصيان والجيش من الانقلاب، حتى لو دمر لبنان على رؤوس الجميع.

حتى الآن كل شيء يشير الى أن “حزب الله” لن يرضى بأقل من انتصار كبير في الانتخابات المقبلة بأي ثمن وأي وسيلة وأي سلاح، في وقت يخوض كباشاً مصيرياً يتوقف على من يلوي زنده أولاً، والى خليط من ملفات متشابكة بين ايران والخليج تحتاج الى مخرج لا يقبل أقل من عنب يتقاسمه الجميع ولا أقل من قتل بعض النواطير.

زر الذهاب إلى الأعلى