غليان طرابلسي بعد غرق “قارب الموت” وتهديد للسياسيين!

إسراء ديب
إسراء ديب

يشكر المواطن محمّد (من التبانة، 29 عاماً) الله اليوم، بعد أشهر لام فيها نفسه على عدم قدرته على السفر بطريقة غير شرعية من ميناء طرابلس، إذْ كان يُخطّط للذهاب إلى قبرص، لكنّه تراجع في اللحظة الأخيرة حين لم يتمكن من تأمين المبلغ كاملاً (2500 دولار) لصاحب الزورق السياحي “الذي كان سينقلنا بالاتفاق بينه وبين القوى الرسمية، إذْ يتمتّع بصلاحيات كما تربطه علاقات واسعة بالجيش والقوى الأمنية بحسب ما كان يُخبرنا، ولم أتمكّن من معرفة تفاصيل هذه الرحلة بعد مغادرتها، مع اختفاء الشخص الذي استلم زمامها، وهي لم تكن مشؤومة كتلك التي واجهتها طرابلس أخيراً على متن قارب غير صالح”.

ويقول محمّد لـ “لبنان الكبير”، وهو يُمسك بهاتفه الخلوي مرتجفاً من التوتر والخوف، بعد اطّلاعه على كلّ الأخبار والمستجدّات في قضية غرق الزورق قبالة شواطئ طرابلس: “لو قمت بالخطوة عينها مسبقاً، أو لو كنت قد أمّنت مبلغاً مالياً لأهرب من هذه البلاد التي أغرقتنا في مأساة مع هؤلاء الركاب، لكنت في عداد الموتى. صحيح أنّنا بتنا نعيش في مدينة منكوبة، لكن شباناً غيري حاولوا الفرار أيضاً، وهم عاجزون عن ذلك بسبب قلة امكاناتهم المالية، في وقتٍ أدرك فيه تماماً أنّهم لن يتردّدوا ولو للحظة في رمي أنفسهم إلى التهلكة إذا كان مصيرهم الهرب من الجحيم، إذْ يرون أنّ الموت أهون عليهم من الذل والمهانة”.

وتعاطفاً مع هذه الفاجعة التي ضربت الفيحاء، شارك محمّد في اعتصام نفذه عدد من أهالي الضحايا أمام منزل وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي في طرابلس، مطالبين كلّ وزراء المدينة ونوابها بالمغادرة، في تهديد واضح بتحرّكات تصاعدية تعبيراً عن غضبهم ويأسهم من الطبقة الحاكمة التي يرون أنّها السبب الرئيسي الذي يدفع العائلات إلى اتخاذ هذا القرار الصعب.

فإذا كانت طرابلس، مدينة العلم والعلماء، تعاني بمعظم أحيائها منذ أيّام من انقطاع التيّار الكهربائي والمياه مع عدم قدرة الخزانات على الوصول إلى بعض المناطق من جهة، وعجز الأهالي عن دفع الأثمان المرتفعة لشراء المياه من جهة ثانية، في ظلّ غياب تام لدور الدّولة، “فلا يُمكن أن يلوم أحد من يفرّ من جهنّم رئيس العهد وأعوانه وحلفائه ومناصريه”، وفق ما يقول أحد المتظاهرين لـ “لبنان الكبير”.

وفي المحصلة النهائية، أعلن (حتّى الساعة) عن وفاة 9 أشخاص بينهم طفلة، وإنقاذ 48 شخصاً، فيما البحث لا يزال جارياً عن الباقين، لا سيما بعد معلومات لفتت إلى وجود أكثر من 75 شخصاً على متن القارب وقد يصل عددهم إلى 80 ما يُشكّل رقماً صادماً ومخيفاً.

قوارب الموت

لا يمكن لأحد أن يتخيل صدمة ضحايا المركب عند غرق زورقهم بشكلٍ مفاجئ، سواء أكان ضرب بشكلٍ مقصود أم لا، ولا يُمكن إغفال قساوة المأساة التي يعيشها الغريق أيّ الشهيد الذي يُنازع من أجل البقاء ويُصارع متمسكاً بآخر أنفاسه قبل مغادرة الحياة، ليستسلم ظلماً إلى المياه التي يُمكن أن تشعر بمعاناته أكثر من نوابه، ووزرائه وبعض مرشحيه الذين لم يُكلّفوا أنفسهم الانسحاب أو الاستقالة تضامناً أو خجلاً ممّا اقترفته أيديهم، بل هم متمسكون بإكمال مسيرتهم المحفوفة بالإنجازات وأبرزها أنّهم لم يسمحوا بوضع حجر واحد سياحي أو مالي لإعمار المدينة وازدهارها، بل وضعوا أسلحة بيد أبنائها تارة، وقتلوهم بكلّ دم بارد عبر دفعهم إلى الهرب من الظروف الاقتصادية السيئة تارة أخرى، وهم كالعادة سيستأنفون نشاطهم الانتخابي كروتين يوميّ يُشبه الرياضة تماماً ليُموّهوا عن أنفسهم وعن رصيدهم الذي يتجاوز الـ 3 مليارات دولار، كيّ لا يتذوقوا طعم الفقر والجوع والعوز كما يذوقه الطرابلسي الفقير.

في الواقع، استفاقت طرابلس على أجواء موجعة وريح خانقة ارتدت بسببها اللون الأصفر الذي يرمز إلى التعب والوهن والأمراض، ولم ينشط خلال هذا اليوم الذي تلى الفاجعة، سوى ملالات الجيش التي هاجمها الكثيرون بالحجارة، أو مروحياته التي تتجه ذهاباً وإياباً، ووصلت شدّة الأزمة إلى تحطيم المواطنين حاجز الطبابة العسكرية قرب البقار – القبة، مع حرق الإطارات، في وقتٍ كان ناجون وبعض الأهالي أكدوا أنّ الجيش قد اصطدم مرتين “عن قصد” بالزورق وقال أحد العناصر: بدي اقبركم”، ما رفع منسوب الغضب خاصّة مع تشييع الجثث وسط إطلاق كثيف للرصاص، رافقه اندلاع مشكلات بسبب رفع صور للسياسيين في المدينة ما أدّى إلى سقوط قتيل، إضافة إلى إشكال وقع قرب المرفأ، بعدما حاول الأهالي منع وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار من الحديث هناك. كذلك وقع إشكال بين الجيش ومواطنين على حاجز الريفا ومستشفى الحكومي، فضلاً عن قطع الطرق في المدينة وخارجها تضامناً مع أزمتها.

ووفق مرجع طرابلسي فإنّ الوضع سيزداد حدّة مع تعاظم الأزمات وغياب الأمل في التغيير مع هذه الفاجعة التي أكّدت حجم إهمال الدّولة وتقصيرها، متوقّعاً أن تُؤثر هذه الأجواء على النتائج الانتخابية، إلّا إذا تضاعف التوتر ووقعت اشتباكات مع الجيش ما قد يُؤدّي فعلياً إلى تطيير الانتخابات إنْ لم تفتح تحقيقات لكشف الملابسات التي توقع الجيش في شباك الشكّ والظنّ بأنّه مسبّب الأزمة، وهذا قد يُؤدّي إلى كارثة أمنية كبيرة إنْ لم تتمّ لملمة القضية بشكلٍ عادل”، وفق ما يقول لـ “لبنان الكبير”.

في السياق، تعهّد مولوي بمتابعة التحقيقات وصولاً الى كشف الملابسات، وقال: “نريدُ تحقيقاً شفافاً يُرضي أهالي الضحايا، ونريدُ العدالة والمحاسبة، سنعمل من أجل إنصاف مدينتنا التي تعاني من حرمان مزمن والتي قدّمت الكثير الكثير للوطن”.

ليست المرّة الأولى التي تُعاني فيها المدينة من قوارب الموت، فهي ظاهرة انتشرت مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011 ولجوء السوريين إلى البلاد الأوروبية، ما دفع طرابلسيون إلى مشاركتهم في هذه المغامرة القاتلة، وتزوير الكثير منهم جوازات سفر سورية للوصول إلى برّ الأمان، وهي طريقة درجت منذ أعوام، لكن ما لا يُدركه كلّ من اللبنانيين والسوريين وحتّى الفلسطينيين اليوم، أنّ “زمن الأوّل تحوّل” وأنّ أوروبا تحديداً أقامت سدّاً منيعاً ضدّهم. وبالتالي، فان محاولات الهجرة على مدار سنوات، تخلّلتها حوادث وفاة وغرق في عرض البحر، ووفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإنّ “1570 شخصاً على الأقلّ، بينهم 186 لبنانياً، شرعوا أو حاولوا المغادرة في رحلات بحرية غير قانونية من لبنان خلال الفترة الممتدة بين كانون الثاني وتشرين الثاني من العام 2020، غالبيتهم باتجاه قبرص”. وفي العام نفسه، نجحت القوات البحرية، وفق الجيش، “في ضبط نحو 20 مركباً وتوقيف 596 شخصاً وتسليمهم إلى السلطات المختصة”.

ومنذ أشهر، وتحديداً في تشرين الثاني 2021، أثيرت قضية تعطل أحد الزوارق في المياه الاقليمية، وعلى متنه عدد من الأشخاص من بينهم أطفال، خلال عملية مغادرة غير شرعية عبر الشواطئ اللبنانية.

كما انطلقت في تلك الفترة، رحلة من الميناء لكن قبل وصولها إلى اليونان، قام حرس الحدود اليوناني بإعادة الركاب بالإكراه إلى الأراضي التركية بأسلوب كان وصفه الأهالي بأنّه سيئ للغاية قبل طردهم إلى تركيا التي نقلتهم إلى مخيّمات، فيما استمرّت المعاناة والمفاوضات مع الدّولة اللبنانية لأسابيع وأكثر “كالعادة” ليشحذ أبناؤها حقّهم في مطالبة دولتهم بهم.

شارك المقال