مفاجآت بالنتائج والنسب… وما بعد 15 أيار مثل قبله

لبنان الكبير

15 أيار صار وراءنا. وما بعده سيكون للأسف كما قبله، على الرغم من ملامح مفاجآت كبيرة في النتائج والنسب، قد تفرح بعض القوى لبعض الوقت، قبل أن تعود دورة الأزمات والطوابير الى يوميات اللبنانيين وربما أقسى مما خبروه قبلاً، اذ تحررت الطبقة السياسية من اعباء السياسات الشعوبية لزوم الموسم الانتخابي، لتحضر المشكلات بحجمها الحقيقي.

شكلت الانتخابات النيابية على مدى ستة أشهر مادة دسمة للمتسابقين الى الندوة البرلمانية، وكانت الطبق الأساس على منابر التصريحات النارية والاتهامية بحيث تحول البلد على مستوى ١٥ دائرة انتخابية الى حلبة “صراع ديوك” على فتات دولة اهترأت مؤسساتها بعد أن غلفوها بصدأ تعطيلاتهم وعنترياتهم وفوقيتهم واستقوائهم. وخططوا ونفذوا بدم بارد لقتل شعب على طريقة الموت البطيء بسبب فسادهم وأنانياتهم وصفقاتهم وهوسهم بالسلطة حتى ولو على حساب شباب فضلوا الموت بين حيتان البحر على أن يعيشوا بين حيتان الظلم والدجل والنفاق. حتى لو على حساب أطفال باتوا في غالبيتهم مهددين بصحتهم وفق تقارير دولية. حتى لو على حساب كبار العمر الذين أثقلهم المرض، فيبكون وجعاً ولا دواء. حتى لو على حساب الوطن برمته ليصبح ولاية في بلد صديق أو مقاطعة من بلد شقيق.

في المشهدية التنظيمية العامة، سلك الاستحقاق الانتخابي مساره الطبيعي أمس بحيث فتحت أبواب مراكز الاقتراع على مصراعيها أمام الناخبين عند السابعة صباحاً وسط انتشار كثيف للقوى الأمنية في محيطها، وحركة لافتة للمراقبين المحليين والأوروبيين الذين تابعوا سير الاقتراع في كل قلم، مسجلين الخروق والثغرات التي لا تعتبر نافرة أو فادحة في استحقاق على مستوى الوطن، وفي ظل التجييش غير المسبوق طوال أشهر، والضبابية التي أحيطت بالانتخابات، والتخوف من افتعال اشكالات تكبر ككرة الثلج بحيث لا يمكن احتواء تداعياتها.

إذاً، قطوع النهار الانتخابي الطويل مر على خير بحيث أن المشهد في كل الدوائر يستحق وصفه بالحضاري والسلس والديموقراطي، إلا أن هذا الواقع لم ينسحب على بعض المناطق حيث حصلت بعض الاشكالات التي تطورت الى تضارب بين مناصري “حزب الله” وحركة “أمل” من جهة، وحزب “القوات اللبنانية” ومؤيدي القوى التغييرية من جهة أخرى. إلا أن تدخل القوى الأمنية الحاسم والسريع أغلق الباب أمام أي انزلاق أمني. كما أفيد خلال ساعات ما قبل الظهر عن انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المراكز.

وإلى جانب المواكبة الأمنية، واكبت وزارة الداخلية هذا اليوم تنظيمياً واستطلاعياً وإحصائياً من خلال غرفة عمليات بثت المعلومات عن سير العملية من مختلف الدوائر كما أعطت نسب الاقتراع على مدار الساعات.

أما في المضمون، فإن مسار الاستحقاق برمته منذ انطلاقه من أشهر حتى يوم أمس لم يكن طبيعياً لأسباب متعددة ومتشعبة:
أولاً، تدني نسب المشاركة في الدوائر والمناطق خصوصاً لدى الطائفة السنية، شمالاً وجنوباً وبقاعاً وجبلاً وفي العاصمة ما يؤشر الى دلالات عدة، أكثرها خطورة أن البرلمان الجديد فاقد للصفة التمثيلية الشعبية الحقيقية بحسب أحد الخبراء الدستوريين.

الالتزام السني بالمقاطعة انسجاماً مع قرار الرئيس سعد الحريري تعليقه العمل السياسي، على الرغم من كل حملات التجييش والحث على التصويت، يؤكد نتائج احدى الدراسات الاحصائية التي جرت في دائرة بيروت الثانية وأظهرت أن تأثير الرئيس الحريري على القاعدة الشعبية أقوى من القوى السنية مجتمعة.

ثانياً، المشاركة الكثيفة للتغييريين أو المجتمع المدني في تجربة أولى وفريدة، لكنهم سقطوا في أول امتحان بعد أن كانت الآمال معلقة عليهم في التغيير. ومع ذلك، فإن هؤلاء شكلوا هاجساً لـ”حزب الله” ان لم يكن اقتراعا، بالمقاطعة، وهذا يعتبره نكسة في بيئته التي يجب ألا تخترق حتى لو بمرشح واحد. وهذا ما يفسر اعتداء مناصري الحزب على مرشحي لوائح المعارضة.

ثالثاً، اعتكاف الرئيس الحريري شكل ارباكاً لدى كل الأطراف من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، وهذا تجلى في التحالفات الغريبة والتي “لا تركب على قوس قزح” بحيث في ١٦ أيار سيتفرق عشاق المرحلة والمصلحة كما ظهر جلياً في صعوبة تأليف اللوائح التي جاءت في غالبيتها غير مكتملة.

رابعاً، جرت الانتخابات في ظل الجوع والفقر والغلاء الفاحش والارتفاع الكبير في أسعار المحروقات، ما يحتم سيطرة المال الانتخابي والرشاوى على روح العملية الديموقراطية، والاتهامات على قدم وساق في هذا الاطار.

خامساً، هناك نسبة كبيرة من الناس “القرفانة” من المنظومة الحاكمة والتي التزمت منازلها.

سادساً، لناحية القانون المعتمد بحيث اتفق الدستوريون وعدد كبير من المرشحين على وصفه بأنه هجين ومشوه لقانون النسبية وطائفي ومذهبي ويشكل أرضية صالحة للخلافات حتى بين أعضاء اللائحة نفسها، وبالتالي، جاء مفصلاً على قياس البعض، والتكافؤ في الفرص معدوم.

وفي المحصلة: مجلس نيابي عبارة عن موزاييك لقوى مشتتة مقابل قوة ممسكة بزمام الأمور بلا حسابات ولا حواصل.

“اليوم الكبير” كما يحلو للبعض وصفه، مرّ بسلاسة وهدوء على الرغم من المطبات المتنوعة التي وضعت في طريقه، اذ كان عرضة للتأجيل أو التطيير في أي لحظة ما دفع الكثير من الخبراء والمحللين الى اعتبار انتخابات ٢٠٢٢ الأكثر إثارة وتشويقاً وغموضاً، واستنزفت قوى الناس المتمسكة بقشة خلاص علها تنجو من الغرق. وليس مستبعداً أن يكون هذا المسار الطويل المدجج بالألغام سوى فيلم من كتابة واخراج وانتاج المنظومة المحنكة في الضحك على عقول الناس، لإلهائهم وذر الرماد في عيونهم علها تنجو من غضب شعب اقترفت بحقه أبشع الجرائم.

كل المتسابقين الى ساحة النجمة اعتبروها معركة “مصيرية” ومفصلية ومحطة تاريخية بحيث أن ما بعد ١٥ أيار ليس كما قبله لاعتبارات عدة، حتى أن فريق الممانعة خاض الاستحقاق الانتخابي على أنه “أمر جهادي وفرصة عبادية” في حين اتخذ الفريق الآخر عنوان معركته “إنهاء الهيمنة واسترداد الدولة”، لكن عدداً من الدستوريين ورجال السياسة والفكر الذين شددوا على أهمية إجراء الانتخابات النيابية وسواها من الاستحقاقات الدستورية في موعدها، توقفوا عند الشعارات البراقة والوعود الحالمة بمدينة فاضلة والصفات الفضفاضة التي رافقت مسار المعركة، مؤكدين لموقع “لبنان الكبير” أن مرحلة ما بعد الانتخابات لن تختلف عما كانت عليه قبلها بغض النظر عن النتائج، وعن ميزان الربح والخسارة لأن لبنان محكوم بالتوافق بين كل أطيافه.

وعلى الرغم من أن الانتخابات جرت في ظل أسوأ أزمة مالية واقتصادية، وبعد انفجار مرفأ العاصمة الذي تسبب بندوب عميقة في النفوس، وبعد ثورة ١٧ تشرين التي غرقت في مستنقعات أنانياتها، طويت صفحة ١٥ أيار، وفتحت اليوم في ١٦ أيار صفحة جديدة مع برلمان جديد، لكن المفارقة بدل أن يرتاح اللبنانيون لخياراتهم التمثيلية، يتملكهم الخوف والقلق وكل أنواع الهواجس من المرحلة المقبلة وكأن حدسهم ينذرهم بالأسوأ، ويرددون “يا حسرتنا من أن تأتي الفكرة بعد السكرة الانتخابية”، وأن تتبخر الوعود مجرد جلوس الفائزين على كراسيهم النيابية خصوصاً وأن مؤشرات الخبراء ودراساتهم وحساباتهم تقول باختصار: الآتي أعظم وأخطر.

هذه الهواجس من الغد ليست نابعة من فراغ بل تستند الى وقائع وتجارب مرة على مدى سنوات، أوصلت اللبنانيين الى مرحلة النفخ على اللبن بعد أن كواهم الحليب. ويسألون: ما قيمة مجلس جديد مع تشريعاته وقوانينه طالما أن ختم الإقرار في جيب الحاكم الأوحد؟ ما أهمية مجلس حجزت مقاعده مسبقاً تحت التهديد والوعيد؟ كيف ستنتظم الحياة السياسية بعد ١٥ أيار طالما أن فريقاً لا يتردد في اعتبار ٧ أيار يوماً مجيداً؟ كيف ستشكل سلطة تنفيذية، وكفة النفوذ “طابشة” لصالح قوة الأمر الواقع؟ كيف سينتخب رئيس للجمهورية، وكل الجمهورية بمؤسساتها وكيانها وسلطتها وهيبتها وقواها مخطوفة بقوة السلاح، وهي رهينة المصالح والمحاور، وتحت رحمة الإصبع المرفوع: اما الدولة لي أو لا دولة؟ كيف سينتشل المجتمع العربي والدولي لبنان من مستنقع أزماته طالما أن الإصلاح مطوق ومحاصر ومعلق على مشنقة الفاسدين والتابعين الذين ينتظرون التعليمات والضوء الأخضر لسحب كرسي الاعدام من تحته؟

على أي حال، غداً لناظره قريب، ولا بد أن الخيط الأبيض سيتبين من الخيط الأسود، لتبقى الحقيقة الثابتة الوحيدة أن البلد وصل الى الرمق الأخير، وأوضاعه لم تعد تحتمل أي تلكؤ أو تواطؤ أو تراجع أو صفقة.

والسؤال الكبير: هل تحل نعمة إلهية على البرلمان الجديد، ويضع ممثلو الشعب خلافاتهم وانقساماتهم جانباً، ويساهموا مساهمة فاعلة في وضع برنامج اصلاحي لينطلق البلد على سكة الخلاص أو أن العمل السياسي سيكون مقيداً بالنكايات والكيديات والعنتريات، وبالتالي، الانتحار والانهيار الكامل للكيان حيث يكون فات الأوان للبكاء على الأطلال، وعلى البلد وأهله ألف سلام؟

شارك المقال