العدالة؟ ليس قبل انهيار اهراءات الاستقواء على الدولة والقانون

لبنان الكبير

لعل ما غرّد به رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن انفجار مرفأ بيروت حين قال: “انفجار 4 آب جرح عميق في قلب بيروت لن يلتئم الا بسقوط اهراءات التعطيل والاستقواء على الدولة والقانون وتصدّع صوامع الاهتراء السياسي والاقتصادي وعروش الكراهية والتعصب الطائفي”، يعبّر خير تعبير عن الواقع اللبناني بحيث دأبت السلطة وبحرص تام على تحويل المؤسسات الدستورية والمالية والقضائية الى اهراءات متخلخلة ومتهالكة باتت مهددة بالسقوط في أي لحظة ليس بفعل عوامل طبيعية، انما بسبب استراتيجية متبعة منذ سنوات لهدم هيكل الدولة وبنيانها. وإذا كان المعنيون والاطفائيون مجندين لمواكبة انهيار اهراءات المرفأ، واتخذوا كل الاجراءات لحماية المدنيين، فمن يحمي اللبنانيين حين تنهار صوامع الاهتراء السياسي والاقتصادي فوق رؤوس الجميع؟

في الذكرى الثانية لانفجار المرفأ، استذكر أهالي الضحايا على طريقتهم الخاصة ذلك اليوم المشؤوم في الرابع من آب 2020، لكن النار المشتعلة في قلوبهم أقوى من نيران الاهراءات، فأحرقتهم حروقاً بالغة لتأتي دولتهم وتصب عليها الزيت من خلال عرقلة التحقيق الذي نثرت في وجهه كل غبار الفذلكات القانونية والدستورية، وتعاونت وتضامنت في دفن العدالة المفقودة والمنشودة تحت ركام فسادهم، وبعثرت مسرح الجريمة لابقائه صامتاً أخرس لا ينطق بكلمة مفيدة أو يتواجد فيه دليل دال فيما خجلت الاهراءات من الصمود، فسقطت أمام أعين الأهالي تضامناً معهم وانحناء أمام تضحيات الشهداء وتحية لأرواحهم، بينما اكتفت الدولة بإعلان الحداد الوطني وتنكيس العلم اللبناني في القصر الجمهوري.

صحيح أن معرفة الحقيقة في انفجار مرفأ بيروت لن تعيد الضحايا الى أحبائهم، ولن تشفي المصابين الذين لا يزال البعض منهم يعاني في المستشفيات بين الحياة والموت، لكن على الأقل تبرد قلوب الأهالي الذين يعدون عريضة أو رسالة رسمية الى مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، يطالبون فيها بتشكيل لجنة تحقيق دولية، فيما يسأل كثير من اللبنانيين: أين المجتمع الدولي من انفجار المرفأ؟ ولماذا لم يزوّد القضاء اللبناني بصور الأقمار الصناعية لأنه وفق أحد الخبراء ما من أحد يقتنع بمقولة انه لا يوجد أي قمر صناعي التقط الصور في لحظة الانفجار؟

وجاءت الاجابة على لسان أحد السياسيين: قبل أن نسأل عن صور الأقمار الصناعية، يجب أن نسأل عن العرقلة وطمس الحقائق التي تبدأ من لبنان وكأن هناك قراراً بتمييع الحقيقة. هناك وسائل عدة لرفع الشكاوى والانتهاكات الى الأمم المتحدة: اما عبر مجلس حقوق الانسان أو من خلال طلب تقدمه الحكومة اللبنانية الى مجلس الأمن.

أما أحد كبار الدستوريين فله رأي آخر، بأن التحقيق لا يزال رهن التجاذبات السياسية التي تتلاعب بالقضاء كما يلعب الطفل بلعبته. لا يزال تفجير المرفأ أمام حائط مسدود بسبب تمسك ثلاث جهات بالتحقيق والمحاكمة: القضاء العدلي، المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وغرفة محكمة التمييز التي يجب أن تحقق مع القضاة وتحاكمهم. ويسأل كثيرون اليوم: أين هو المجتمع الدولي من جريمة المرفأ؟ المجتمع الدولي لم ولن يأبه يوماً للبنان انما يتحرك وفق مصالحه. الدول تبيع بعضها البعض المواقف وتتبادل المصالح حتى لو كان على حساب أكبر الجرائم. صحيح أننا شاهدنا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب الانفجار في بيروت، لكن يجب ألا ننسى أن فرنسا تريد أن تدخل الشرق الأوسط من بوابة لبنان للحصول على غاز المتوسط. لا يجب أن نأمل ونطمح وننتظر من المجتمع الدولي أن يحقق لنا العدالة التي يجب أن نحققها بأيدينا. وهناك من ينادي بلجنة تقصي حقائق دولية، وهذا أمر مدعاة للسخرية لأن لجنة التحقيق الخاصة يأتي دورها عقب وقوع الانفجار أو الجريمة مباشرة، واليوم مضت على الانفجار سنتان، فأية آثار ستتقصاها اللجنة وأية تحريات ودراسات فنية وقد تم العبث بساحة الجريمة على مدى سنتين؟ تعيين لجنة تحقيق خاصة كان يجب أن يكون بعد الانفجار مباشرة وليس اليوم. أما أولئك الذين يسألون عن مسوحات وصور الأقمار الصناعية التي من الممكن أن تجزم ان كان الانفجار قد حصل بفعل فاعل أو باعتداء عسكري، ففي هذا الاطار ان الدول تتحرك وفق أجنداتها ومصالحها الخاصة، وواضح أن أجنداتها اليوم لا تتواءم مع كشف الحقائق في انفجار المرفأ وربما يوماً ما، يصبح كشف الحقيقة مناسباً لمصالحها. على سبيل المثال أن يكون وراء الانفجار اعتداء اسرائيلي، فإن ذلك لن يتم الكشف عنه لأن الدول تتحرك وفق مصالحها. ونأمل أن ينال المتهمون الحقيقيون قصاصهم وأن تُنصف أرواح الشهداء وآلام أهالي الضحايا والناس المتضررة.

أما في ما يتعلق ببعض المحامين الذين يعدون العرائض والرسائل الى الأمم المتحدة، فنقول لهم: كفاكم شعبوية يا من تدّعون الغيرة والحرص على الضحايا. كفاكم شعبوية واتجاراً بالقضية وبدم البشر. وهنا نسألكم: هل تستطيع الأمم المتحدة أن تنتهك سيادة الدول وتفرض على لبنان أو على غيره تحقيقاً ما أو عدالة ما؟ هل تُخاطب الأمم المتحدة عبر عرائض أو رسائل؟ فلنذهب الى الحل الحقيقي الذي يقضي بتعديل المواد المتعلقة بمحاكمة القضاة والرؤساء والوزراء، وغير ذلك ليس هناك من حل. الدول ومجلس الأمن لا يتحركون الا بناء على قرارات أممية تتطلب في مجلس الامن على سبيل المثال التصويت بأكثرية 9 أعضاء من أصل 15 عضواً وعدم وجود أي فيتو من أي دولة. لن يصدق أحد أن الأمم المتحدة ستأخذ في الاعتبار بعض العرائض التي تكتب. كنا نتمنى لو كان بالامكان ذلك، لكن هذا مستحيل. أما الضغط على الأمم المتحدة من المنظمات غير الحكومية التي تعنى بالشؤون الانسانية، فله تأثير بسيط على الرأي العالمي ولكن لنقرأ بصورة صحيحة القانون الدولي وقانون الأمم المتحدة بحيث أن أحداً لا يستطيع أن يحرك مجلس الأمن الا باتفاق دولي وأممي. لا تُخاطب الأمم المتحدة من خلال قوى أو قوة أو حزب أو أحزاب انما من خلال شكاوى تقدم الى مجلس الأمن أو اليها، والدليل كم من قرارات من الأمم المتحدة لم تنفذ على الرغم من مناشدات الدولة اللبنانية تطبيقها؟ ان كان مجلس الأمن والأمم المتحدة يصمّان الآذان عن مناشدات الدول التي هي اللاعب الأساس على المسرح الدولي، فنحن نأمل أن تستمع الأمم المتحدة الى بعض القوى السياسية. وعلى سبيل المثال، بعد نضال 50 سنة، احتفلت منظمة التحرير الفلسطينية بأنها اعتبرت نصف دولة وأعطوها صفة المراقب في الأمم المتحدة أي يمكنها الحضور من دون التصويت. كفانا شعارات وشعبوية. القوى السياسية مجتمعة ان أرادت، تستطيع أن تحقق العدالة بأن تذهب الى تعديل المواد المتعلقة بالقانون رقم 250/ 93 المتعلق بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وبالقانون الذي يرعى محاكمة القضاة أو يتفقوا استثناء ولمرة واحدة على قانون يشير الى أن هذه القضية يختص بها المجلس العدلي دون سواه. وفي الخلاصة: اما أن يعملوا بطريقة صحيحة ويتجهوا نحو تعديل المواد المتعلقة بمحاكمة القضاة والرؤساء والوزراء، وحصر التحقيق بالمحقق العدلي طارق البيطار والمحاكمة بالمجلس العدلي من خلال المزيد من الضغط ومتابعة النضال، والا القضية ستذهب نحو النسيان لكن مع التأكيد أنه لا يموت حق وراءه مطالب.

شارك المقال