الترسيم مع العدو ممكن… ماذا عن التطبيع الوطني؟

لبنان الكبير

انها مرحلة الترسيمات بامتياز: ترسيم الحدود البحرية الذي يبدو متقدماً الا اذا كان هناك أي فخ بين سطور الرسالة الخطية بصفحاتها العشر التي تسلمها لبنان من السفيرة الأميركية دوروثي شيا، بحيث انكب فريق هندسي وتقني في الجيش اللبناني على دراستها ومقارنتها مع الاحداثيات التي يملكها. وترسيم التشكيلة الحكومية التي تعقد النقاش حولها لمدة ثلاثة أشهر لأن المعطلين لا يلتزمون لا بوعد ولا بكلمة “رجال” ولا بوثيقة حتى بات الجميع يسأل: هل الاستحقاق الدستوري الذي من البديهي أن يمر بسلاسة ومن دون شروط مسبقة وخطوط ترسيمية للمرحلة اللاحقة أصبح أصعب بين أبناء البلد الواحد من انجاز الترسيم مع العدو؟ اما ترسيم الملف الرئاسي، فتبدو حظوظ التوصل الى اتفاق حوله ضئيلة في ظل الانقسام الحاصل بين جهتين أساسيتين كل منهما فاقدة الثقة بالاحداثيات السياسية للجهة الأخرى، وبات من الواضح انتظار وسيط خارجي يسلمهما رسالة مفادها: رئيس على قاعدة “لا يموت الديب ولا يفنى الغنم”.

وبين كل هذه الترسيمات المصيرية، يستمر الحصار على الشعب بكل أنواع خطوط الفقر والعوز والغلاء الفاحش والذل حتى في لقمة الفقراء الذين تحولوا في اليومين الماضيين الى شحاذين على أبواب الأفران التي تعامل أصحابها وموظفوها معهم بقلة احترام ما دفع عناصر البلدية الى التدخل في بعض المناطق.

والبداية من الترسيم الأكثر تقدماً أي الترسيم البحري بحيث انشغلت الأوساط السياسية والصحافية والمحللون بمعرفة مضمون المقترح الأميركي الذي أرسله الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الى لبنان عبر السفيرة شيا التي سلمته بدورها الى الرؤساء الثلاثة، الا أن المعلومات حوله لا تزال ضئيلة، وما تسرب منها ليس دقيقاً خصوصاً أن المقترح يحتاج إلى وقت لترجمته بحرفية والتدقيق في كل كلمة، لكن بعض التسريبات أشار الى أن المقترح يضمن الخط 23 للبنان وحقل قانا كاملاً، وأن لبنان ليس معنياً بالتعويض لاسرائيل عن جزء منه، واعتراف بحق لبنان بالتنقيب والاستخراج، وأن هناك فصلاً تاماً بين الترسيم البحري والبري، واقراراً بعدم انسحاب أي نقطة بحرية يتفق عليها على أي نقطة برية قد تؤثر على ترسيم الحدود البرية لاحقاً.

ولفت أحد المطلعين لموقع “لبنان الكبير” الى أن من المتوقع أن يعقد الفريق التقني اجتماعاً اليوم، في القصر الجمهوري لدراسة الاحداثيات التي قدمتها اسرائيل على أن تليه جلسة ثلاثية رئاسية في بحر الأسبوع للتشاور في الرد اللبناني، رفضاً أو قبولاً، خلال أيام.

وسأل متابع لملف الترسيم: طالما أن احداثيات الخط ٢٣ مودعة لدى الأمم المتحدة منذ العام ٢٠١١ عبر المرسوم ٦٤٣٣، فلماذا الحديث اليوم عن احداثيات جديدة؟ ماذا يعني هذا الأمر؟ هل يعني أن المثلث عند نقطة الـb1 هو المشكلة؟ واضح جداً أن هناك ما يحاك في الخفاء من قبل المفاوضين في هذا الاطار. ثم ماذا يعني الفصل بين البر والبحر خصوصاً أنه كان هناك طلب اسرائيلي بوضع ٦ طفافات على نقطة الـb1 عند الحدود البحرية بحيث يصبح هذا المثلث معزولاً؟ هل سيرضى لبنان بذلك؟ ما يجري في ظل هذا التكتم الشديد مخيف لأنه منذ العام ٢٠٠٧ تتوالى التنازلات وصولاً الى اليوم. لذلك، الحديث اليوم عن نقطة الـ b1 تحديداً بحيث أن الخط ٢٣ يبعد عنها أكثر من ٣٠ متراً، ماذا سيترتب على ذلك في البر؟ ولماذا يتحدث لبنان اليوم عن فصل الحدود البحرية والبرية في حين أن ذلك مخالف للقوانين الدولية ولما كان يصرح به المسؤولون في السابق، اذ أن آخر نقطة على الحدود هي النقطة البحرية البرية حيث يلتقي البر مع البحر، وهذا لا يتجزأ ولا يتغير، فهل هناك ما يحاك في الأروقة السياسية في هذا الاطار؟ ثم لماذا هذا التفاؤل من الجانب اللبناني؟ فالخط ٢٣ أقل من حق لبنان، وبالتالي من المؤكد أن الاسرائيلي سيقبل به كما أن الملف سيخدم رئيس الوزراء الاسرائيلي في انتخابات الكنيست المقبلة. ويبقى السؤال: لماذا نحن مستعجلون على انهاء ملف الترسيم؟ ولماذا هذا التكتم؟ ولماذا بهذه الطريقة؟ طالما وصل التفاوض الى هذه المرحلة، يعني أنه يجب تعديل المرسوم ٦٤٣٣ بمرسوم آخر من خلال الحكومة ومجلس النواب. وهنا اشكال دستوري في ظل حكومة تصريف أعمال وصلاحياتها والشغور على المستوى الرئاسي المتوقع. ولا بد من القول انه يجب عرض الملف على الاستفتاء الشعبي لأنه ملك لكل اللبنانيين، ولا يحق لأي مسؤول أن يتنازل قيد أنملة عن حق لبنان. والأهم في اتفاق الترسيم، التنبه الى المكامن المشتركة تحت الماء خصوصاً أن اسرائيل في مرحلة الاستخراج بينما نحن لم نبدأ بمرحلة التنقيب، وهذا ربما تترتب عليه خسائر للبنان من ثروته النفطية.

اما على صعيد الترسيمات الدستورية، فأكد مصدر مطلع أن ايجابية التشكيل الحكومي هذا الأسبوع لا تزال قائمة على الرغم من أن مطالب فريق رئيس الجمهورية تتغير وتتبدل بصورة دائمة، ولكن هناك اصرار من “حزب الله” على التأليف لأنه يدرك تماماً أن لا رئيس جمهورية في المهلة الدستورية. وبحسب أحد المحللين السياسيين، فإن هذه المعطيات تتطابق مع الواقع، اذ لو تذكرنا المسار الزمني للتشكيل وما رافقه من حرب بيانات حين ظن الجميع أن صفحة التأليف طويت في العهد الحالي ثم وبليلة قدر، وبصورة مفاجئة، عادت الروح والدينامية والحيوية الى الاستحقاق الحكومي لاسيما بعد مواقف السيد حسن نصر الله وقيادات “حزب الله” التي شددت خلال أكثر من مناسبة على ضرورة ولادة حكومة كاملة الصلاحيات، حتى أن الرئيس نجيب ميقاتي وعد بأنه سينام في القصر الجمهوري الى حين التشكيل. ذلك يعني أن تشكيل الحكومة يجري على توقيت الحزب الذي اختار هذه الفترة تحديداً لأنه على يقين بأن لا امكان لانتخاب الرئيس في الفترة الدستورية، وأن الشغور يمكن أن يمتد الى أشهر لأن التسوية في المنطقة لم تنضج بعد خصوصاً ما يتعلق بالاتفاق النووي الايراني – الأميركي الذي تعرقل في المرحلة الأخيرة ما ينعكس عرقلة على الاستحقاق الرئاسي. وفي هذا السياق، أتى البيان الثلاثي الأميركي – الفرنسي – السعودي الذي تحدث عن مواصفات الرئيس الذي عليه الالتزام بتطبيق اتفاق الطائف والقرارات الشرعية الدولية. وبالتالي، ليس من مصلحة الحزب حالياً انتخاب رئيس للجمهورية لأنه اذا جاء برئيس كما يريد فسيظهر كأنه يتحدى البيان الثلاثي وهو لا يريد مخاصمة المجتمع الدولي. واذا قبل برئيس قريب من الجو السيادي في البلد، فيبدو كأنه تنازل، وهو يعلم أنه إذا تنازل مرة فستكر سبحة التنازلات لاحقاً. اذاً، الافضل له أن تمر المرحلة بهدوء وبلا رئيس للجمهورية الى حين الوقت المناسب له ولايران في المنطقة حيث تتم المساومة على الرئيس. وهكذا، فإنه من خلال حكومة أصيلة، يعطي واجهة شرعية للبلد، ويسد الشغور الرئاسي ويضمن توقيع الاتفاقات الأساسية إن كان مع صندوق النقد الدولي أو ترسيم الحدود البحرية من جهة، ويؤمن استمرار الثقل السياسي الذي يريده حليفه “التيار الوطني الحر” من خلال الحكومة الجديدة خصوصاً أن لدى التيار هواجس من تقلص دوره على الساحة السياسية بعد انتهاء ولاية الرئيس عون، وذلك بسبب فشله في إدارة البلد والسياسات الخاطئة التي اتبعها، من جهة أخرى. وفي الخلاصة، يمكن القول ان الاصرار على تشكيل حكومة مرده الى شغور رئاسي محسوم في ظل التعقيدات في المنطقة لاسيما أن الجميع يعلم أن رئيس جمهورية لبنان هو نتاج تسويات اقليمية ودولية، وبالتالي، فإن عدداً لا بأس به من الكتل النيابية ينتظر دفة الربح والخسارة في المنطقة ليبني على الشيء مقتضاه في اختيار الرئيس.

الراعي يخشى استمرار ربطُ جلسةِ الانتخابِ بتوافق لا يَحصل

الى ذلك، أكد البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في عظة ألقاها بعد قداس الأحد في الديمان “أننا نواصل صلاتنا من أجل انتخاب رئيس للجمهوريّة قبل الحادي والثلاثين من هذا الشهر الأخير من المهلة الدستوريّة. وأوّل ما نرجو أن يسبق التوافق على اسم المرشّح المتّصف بالمواصفات التي يجمعون عليها، رؤيةٌ مُوحَّدةٌ وطنيّةٌ واقتصاديّةٌ للحكمِ ولعَلاقاتِ لبنانَ العربيّةِ والدوليّة، بحيث تتّفق عليها جميع القوى السياسيّة”، معرباً عن خشيته من “أن يَستمرَّ ربطُ جلسةِ الانتخابِ بتوافقٍ لا يَحصُلُ، فتَنتهي الـمُهلةُ الدستوريّةُ من دون توافقٍ ومن دونِ انتخاب رئيس. وهذا مرفوض بالمطلق لأنّه جريمة بحقّ الشعب اللبناني والدولة في حالتيهما الراهنتين”.

وسأل: “كيف لمجلسٍ نيابيٍّ أنْ يَعتبرَ الشغورَ الرئاسيَّ هو الممكِنُ، والانتخابَ هو المستحيل؟ أين الضميرُ؟ وأين المسؤوليّةُ الفرديّةُ والوطنيّة؟ وأين المرشَّحون الجِدِّيون الّذين يُوحُون بالثقة إنِ انتُخِبوا، أكانوا مُرشَّحِي تحدٍّ أم مرشّحِي توافق؟”، معتبراً أن “الرئاسة ليست تتويجَ مسيرةِ حياةٍ خاصّةٍ، بل تتويج لمسيرةٍ وطنيّةٍ في خِدمةِ القضيةِ اللبنانيّة”. وشدد على أن “ما نخشاه أيضاً أنّ تَسليمِ نوّابٍ بحصولِ شُغورٍ رئاسيٍّ لا يعود إلى انتظارِ الاتّفاقِ على اسمِ رئيسٍ، بل إلى تَموضُعٍ من شأنِه أن يُحدِثَ شغوراً دستوريّاً يؤدّي إلى تغييرٍ في مقوِّماتِ البلاد، وماهيّة الوجود اللبنانيّ الحرّ، في ظلِّ الشغورِ الرئاسيِّ والتخبطِّ الحكوميّ. لذا، يَجدُر بالقِوى اللبنانيّةِ المؤمنةِ برسالةِ لبنان أن تَمنعَ حصولَ ذلك، وتحافظَ بجميعِ الوسائلِ الناجعةِ على لبنان التعدّديِّ، المدنيِّ، الديموقراطيِّ، الموَحَّدِ في كنفِ دستورٍ لامركزيٍّ توافَقْنا عليه. وهذه أمانةٌ في عُنْقِ كلِّ مواطنٍ وجماعة”.

شارك المقال