متل الترسيم بالبحر… قمحة ونص لكن لمين؟

لبنان الكبير

تصدر اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل الاهتمام الرسمي والشعبي أمس، بحيث أبدى الجميع تفاؤله الحذر ليس من مضمون المقترح الاسرائيلي الذي وضع الجانب اللبناني ملاحظاته عليه، انما لأن لا ثقة بمعظم الطبقة السياسية الحالية التي نهبت البلد وثروته، وتشاركت في تبديد 160 مليار دولار من الودائع المصرفية، وهي على أهبة الاستعداد لأن تنهب مردود النفط والغاز، وبالتالي، ليست مؤهلة لأن تتسلم ملفاً بحجم ملف الترسيم، اذ أجمع كل الخبراء على ضرورة انشاء صندوق يخضع لقوانين معينة كي لا ينطبق على عائدات ثروتنا مقولة “المال السائب يعلم الناس الحرام”.

بعد اجتماع رئاسي ثلاثي في القصر الجمهوري للبحث في المقترح الاسرائيلي، خرج الرؤساء بموقف واحد موحد و “قمحة ونص” على ذمة رئيس مجلس النواب نبيه بري. أما الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، فأكد أن الأمور مُتجهة الى الطريق الصحيح بشأن اتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، وأن موقف الجميع في لبنان موحّد بشأن هذا الاتفاق، وذلك من أجل مصلحة البلد. وقال: “كانت لي وللرئيس بري بعض الملاحظات، واللجنة التقنية أخذت بها كاملة، وسيكون لنا رد سيُرسل إلى الوسيط الأميركي ضمن هذا السياق كاملاً، وأودّ التأكيد أن كل المسلمات والأمور الأساسية تامة ضمن الاتفاق، والأمور متجهة الى الطريق الصحيح”.

وسبق الاجتماع الرئاسي، اجتماع تقني استشاري في قصر بعبدا تمت خلاله الاستعانة بخرائط وبإحداثيات عرضت على شاشة، وقال نائب رئيس مجلس النواب النائب الياس بو صعب: “نأمل أن يكون الرّد اللبناني في يد الوسيط الأميركي اَموس هوكشتاين اليوم على أبعد حدّ، ونحن لا نعطيه جواباً رسميّاً بل ملاحظات والشياطين التي تكمن في التفاصيل باتت صغيرة جدّاً. وموقف لبنان النهائي يُعطى عندما يصل العرض الأخير ولبنان حصل على كامل حقوقه في حقل قانا والملاحظات التي أجريناها قانونية ومنطقية ومن منطلق صاحب حق. وإذا أُخذ بالملاحظات كما اتفقنا عليها نتكلّم عن أيّام للتوقيع وليس أسابيع، والمناطق المتنازع عليها سيبقى متنازعاً عليها حتى يبتّ بها، ونحن لا نعترف بالعدوّ الاسرائيلي. وبالتالي لا نوقّع على معاهدة أو اتفاق معه، والوسيط الأميركي كان حريصاً من هذه الناحية وهناك ترتيبات للتوقيع”.

أما في الجانب الاسرائيلي، فيبدو أن التخبط سيد الموقف، اذ أشارت صحيفة “معاريف” الاسرائيلية أمس، الى استقالة رئيس وفد التفاوض الاسرائيلي عودي أديري من منصبه لمعارضته اتفاق الترسيم. الا أن وزارة الطاقة الاسرائيلية، أعلنت أن أديري، الذي شغل خلال العامين الماضيين منصب رئيس فريق المفاوضات بين إسرائيل ولبنان، طلب من وزيرة الطاقة كارين الحرار إنهاء منصبه استعداداً لبدء وظيفة جديدة.

وفيما تخوفت أوساط مراقبة من تحول الترسيم الى ملف انتخابي استثماري قد يعرضه للعرقلة وللانتكاسة من الجانب الاسرائيلي ان لم يسارع الوسيط هوكشتاين وادارة بلاده، الى احتوائه وسحبه من البازار الانتخابي، تساءلت بعض الجهات عما يمكن أن يحمله الملف في الأيام القليلة المقبلة، وما اذا كان الرئيس ميشال عون سيسجل الانجاز في سجل عهده قبل رحيله من بعبدا خصوصاً في ظل الحديث عن اعتبار اتفاق الترسيم في حال حصوله مقدمة لاتفاق سلام أو ما يشبهه بين لبنان وإسرائيل وربما وصولاً الى التطبيع في مرحلة لاحقة ليست قريبة.

في هذا الاطار، اعتبر بعض السياسيين أن أي محادثات سلام بين لبنان والعدو غير ممكنة حالياً لأن لبنان آخر دولة يمكن أن تعقد اتفاقية سلام مع العدو الاسرائيلي. وبالتالي، لا علاقة لملف الترسيم البحري بالسلام أو التطبيع. في حين سأل أحد الديبلوماسيين: وفق أي شروط يأتي الترسيم؟ وأي نوعية من الترسيم؟ وهل الترسيم بناء على رغبة اسرائيل أو بناء على تحقيق رغبات لبنان ومصلحته؟، موضحاً أن الترسيم يؤدي الى الاستقرار اذا كان يحقق ويلبي طموحات المشاركين في هذه الحدود اما اذا كان هناك فريق يغلب الآخر، فالترسيم لن يجلب الاستقرار الذي هو نتيجة التفاهم وحل المشكلات وليس البناء على الخلاف والتشبث والهيمنة. يجب على العالم العربي أن ينقسم الى مجالس تعاون مختلفة بحيث أن لبنان وسوريا والأردن والعراق وفلسطين يجب أن تكون وحدة متكاملة اقتصادياً، وتؤلف نوعاً من مجلس تعاون بينها على غرار مجلس التعاون الخليجي. وفي حال نجحنا في ذلك، ثم أقنعنا الجانب الاسرائيلي بأن لديه مصلحة في التفاهم مع الفلسطينيين حينها لا مانع من السلام، اذ لسنا مختلفين مع اليهود انما مع الصهاينة الذين لا نقبل بهم. حين يتصالح الفلسطيني مع اليهودي، وحين تدعو الدول العربية الى سلام دائم مع اسرائيل ضمن شروط معينة فعلى ماذا نعترض؟.

وفي وقت رأى أحد النواب السابقين أن السياسة اللبنانية لن يؤثر عليها الترسيم بقدر ما تؤثر عليها سياسة أطراف في الداخل بمعنى أنه طالما هناك حزب يملك السلاح، فلبنان معرض في كل لحظة لأي خضة داخلية أو مع العدو الاسرائيلي، اعتبر أحد المحللين السياسيين أن كل ما تم انجازه في الترسيم البحري الى اليوم هو الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل، وبالتالي، لبنان تسلم خطوطاً عريضة فيما التفاصيل هي المهمة. هناك الوفد التقني الذي يجب أن يأخذ المبادرة في المفاوضات للوصول الى مسودة اتفاق ممكن بين لبنان واسرائيل. الخطوة ايجابية لكنها لا تزال بحاجة الى الكثير من الجهد للبلورة النهائية أو للمسودة النهائية. أي اتفاق في ترسيم الحدود يجب أن يحظى بسقوف دولية واقليمية بقدر ما يجب أن يحظى بسقوف لبنانية واسرائيلية بمعنى أن يكون هناك رأي للولايات المتحدة ورأي لايران وللدول الأوروبية المهتمة بالنفط والغاز اللبناني وأيضاً لبعض الدول العربية. لذلك، هذه السقوف ضرورية لترسيم أي حدود أو أي اتفاق بين لبنان واسرائيل. ومن المبكر جداً الحديث عن انتعاش اقتصادي في حال تم التوافق على ترسيم الحدود لاعتبارات عدة: أولاً، لأنه علينا أن ننجز الاستحقاق الرئاسي. ثانياً، علينا أن نشكل حكومة شفافة تستطيع مخاطبة الرأي العام الدولي وصندوق النقد الدولي. ثالثاً، أن لا يكون مردود النفط والغاز في أيدي السياسيين المتهمين بالفساد، وهذه النقطة أساسية، لذلك لا بد من التفاهم على كيفية ايجاد مخرج لعائدات النفط والغاز عندما يبدأ لبنان باستثمار هذه الطاقة، لأن لا ثقة بمعظم الطبقة السياسية الحالية التي نهبت لبنان وثروته وهي مستعدة لأن تنهب مردود النفط والغاز. التوصل الى اتفاق سيكون ربما تأشيرة لانتخاب رئيس بمواصفات تحتمها اتفاقية ترسيم الحدود لأن الترسيم سيكون انجازاً بحد ذاته، وسيكون الاتفاق الأول المبرم بين لبنان واسرائيل وان برعاية الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة. وهذا بطبيعة الحال، سيؤثر على الاستحقاق الرئاسي خصوصاً اذا كان هناك من شغور، وتم ترسيم الحدود، عندئذ يكون لاسرائيل بشكل أو بآخر رأي في مواصفات الرئيس اللبناني المقبل لحماية اتفاقية الترسيم والمصالح المشتركة المضمونة في الاتفاقية، ولو من بعيد وبصورة غير مباشرة أي عبر الولايات المتحدة. أما في ما يتعلق بالوضع السياسي، فاذا كان هناك من رئيس فعلاً يحظى بمواصفات دولية ومحلية، فنحن متجهون الى صفحة مختلفة تماماً عن الصفحة الماثلة حالياً في لبنان. وبالتالي، حكومة جديدة تتمتع بمواصفات عالية من الشفافية مقبولة من صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي والمجتمع العربي والخليجي وأيضاً من الداخل اللبناني، تكون مؤشراً جيداً على الوصول الى مناخات توافقية مستقبلاً. أما عملية ترسيم الحدود البرية، فليس هناك من خلافات بشأنها لاعتبارات عدة: هناك الخط الأزرق الذي رسمته الأمم المتحدة، ثم هناك اتفاقية الهدنة المبرمة بين لبنان واسرائيل برعاية الأمم المتحدة التي تحدد احداثيات الحدود النهائية بين البلدين وليس هناك من اشكالية على هذا الصعيد. أما في ما يتعلق بمزارع شبعا، فهذا الامر خاضع لحسابات كثيرة: هل هي مزارع لبنانية أو سورية؟ هناك خلاف حول هويتها، وبالتالي، اذا كان هناك من تصعيد فلن يكون بقرار ثنائي أو فردي انما بقرار اقليمي دولي، وهو غير متوافر حالياً، لذلك ليس هناك من تصعيد أو مشكلة على صعيد الحدود البرية. شئنا أم أبينا، نحن مقبلون على تطبيع العلاقات مع اسرائيل، وهذا التطبيع يتوسع على مساحة العالم العربي، كما أن معظم دول مجلس التعاون الخليجي طبعت علاقاتها والأردن ومصر، ويبقى لبنان وسوريا لم يطبعا، لذلك مساحة التطبيع ستصبح حتمية في المستقبل، وهذا الأمر لا مفر منه مهما كابر المكابرون. لذلك، المسألة مسألة وقت وعندما نتحدث عن اتفاق قد يتم بين لبنان واسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، فمعنى ذلك أن هناك ما يمكن البناء عليه انطلاقاً من هذه الاتفاقية. التطبيع لن يكون غداً أو قريباً لكنه آت، هذا هو مسار التاريخ ومسار الأحداث، ولبنان قد يكون آخر دولة عربية تطبع لكن مسار التطبيع بدأ يسير في طريق عريض، ولن يستثنى لبنان منه. ولا يمكن التحدث عن السلام المثالي انما ربما عن سلام المصالح أو توافق المصالح، لذلك، فإن التطبيع عندما يحصل سيكون من ضمن لعبة المصالح. وبالتالي، ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل انما يتم تحت شعار تأمين المصالح لكلا البلدين، والتطبيع يخدم المصالح المشتركة.

وعلى صعيد ترسيم التشكيلة الحكومية، يبدو أن التطبيع بين اللبنانيين صعب لكن ليس مستحيلاً، ولا بد من أن يخجلوا من توقيع اتفاق مع عدو، وهم لا يتفقون على ملء الشغور في المؤسسات الدستورية، وتمكنوا من ترسيم حدود مع اسرائيل فيما يرفعون كل أنواع الاشتباك والعراقيل والحدود في وجه بعضهم البعض، ويبنون الحيطان العالية والمتاريس بينهم. انها مفارقة غريبة تستحق التوقف عندها، لكن لا بد من أن تدق ساعة الحقيقة يوماً، ويعود المسؤولون الى ضمائرهم لانقاذ الوطن والشعب بحسب أحد السياسيين المخضرمين.

وفي هذا السياق، أكد مصدر مطلع على الاستحقاق الحكومي في تصريح لموقع “لبنان الكبير” أن التشكيل الحكومي لا يزال على نار حامية، وأن الامور ليست مغلقة لا بل امكان التشكيل لا يزال قائماً، لكن هناك بعض التفاصيل التي تبحث بعيداً عن الاعلام وعن الأضواء لأن ذلك يساعد في عملية التأليف. اذاً، المساعي مستمرة، ومن المفترض أن تتبلور خلال أيام لأن كل الأطراف باتت على قناعة بوجوب أن تكون هناك حكومة كاملة الصلاحيات تواكب التطورات المستجدة خصوصاً ملف الترسيم البحري والاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولا يمكن الحديث عن الوزارات التي يطرح تعديلها ولا عن الوزراء الذين سيتبدلون لأن ذلك يخضع للتغيير وفق النقاش الحاصل، مع العلم أن أكثر من وساطة تدخل على خط تقريب وجهات النظر بين الرئيسين عون وميقاتي الا أنه لا يمكن تحديد موعد لولادة الحكومة الجديدة لأنها رهن نتائج النقاش في الأيام المقبلة. الرئيس ميقاتي لا يزال يحاول ايجاد صيغة يوافق عليها الجميع، وهو يركز على موضوع التوازن والحرص على حصول التشكيلة الجديدة على أكبر قدر ممكن من ثقة النواب كي تستطيع القيام بدورها. مع التأكيد أن التعديلات لا تزال في نطاقها الضيق، وتتراوح بين بعض الوزارات والوزراء. وتحدثت معلومات عن أن التشكيل سيؤخر الى ربع الساعة الأخير من نهاية ولاية العهد الحالي أي قبل 20 تشرين الأول الحالي لأنه حينها يتحول مجلس النواب إلى هيئة ناخبة، ولا يعود قادراً على مناقشة البيان الوزاري ومنح الحكومة الثقة. اذاً، عامل الوقت ضاغط على الجميع، وستصبح المرحلة مرحلة عض أصابع بحيث سيضطر العهد وفريقه السياسي الى القبول بالحد الأدنى من المطالب. الا أن مصدراً مواكباً للنقاش أشار لـ “لبنان الكبير” الى أن كل ما يقال في الاعلام ليس الا من نسج الخيال أو يأتي في اطار التحليلات، لأن النقاش الفعلي والحقيقي والدقيق يدور بين الرئيسين وضمن الحلقة الضيقة جداً المعنية بالتأليف. ولا بد من أن اللقاء الرئاسي الثلاثي، تطرق الى الحكومة على هامش ملف الترسيم، وان لم ينتج عنه أي تقدم الا أنه برّد مناخات التشنج بين الرئاستين الأولى والثالثة ما يعني العودة الى عقد جلسات تشاورية، وبوتيرة أسرع لتأمين ولادة الحكومة.

شارك المقال