“عنب قانا” وسكرة الاستحقاقات اللبنانية

لبنان الكبير

يبدو أن المسؤولين لم يستفيقوا بعد من سكرة الترسيم البحري أو “الانجاز التاريخي” الذي في أحسن نتائجه لن يعوّض المليارات التي شفطوها خلال سنوات، فتناسوا الاستحقاقات الدستورية وكأن الوقت ليس داهماً لتأليف حكومة، وكأنه لم تفصل عن نهاية ولاية العهد 18 يوماً، ولا بوادر ولا رائحة رئيس تلوح في الأفق، ربما لأن رائحة الغاز والنفط طغت على كل الحواس والاحساس بالمسؤولية ولمَ لا طالما أن معادلة البر ستطبق في البحر: شفط ثروات لبنان من قعر البحر، ويحيا الشعب العظيم في قعر الجحيم.

وفي ضوء ما توصلت اليه المفاوضات، يفترض أن يتم التوقيع بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي في الأيام المقبلة، في الناقورة، برعاية أميركية، ليدخل من بعده لبنان نادي الدول النفطية. ومن المتوقع أن يتخذ من مقرّ قوات الطوارئ الدولية عند نقطة الناقورة الحدودية، مكاناً للتوقيع، وتتسلّم الأمم المتحدة والوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، الرسائل من لبنان وإسرائيل كلّ على حدة اذ لا يكون بين الوفدين اللبناني والاسرائيلي كلام مباشر، كما أن الوفد اللبناني لن يتضمن مسؤولين رسميين انما ممثلون عن وزارة النفط ووفد عسكري وتقني، لكن كل هذه التفاصيل تبقى رهن بالاتفاق بين الرؤساء الثلاثة بعد اجتماعهم المرتقب قريباً.

وفيما سرّبت نسخة عن الاتفاق الذي سلّمه هوكشتاين للبنان واسرائيل، وافق مجلس الوزراء الاسرائيلي المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية “الكابينت”، بالغالبية على مسودة الاتفاق. وتوالت المواقف الدولية المرحّبة، واعتبر وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أن هذا الإنجاز بداية حقبة جديدة من الازدهار والاستقرار في الشرق الأوسط وسيوفر الطاقة الأساسية لشعوب المنطقة والعالم.

وفي السياق، أوضح أحد المحللين أن هناك حاجة كبيرة الى نفط البحر المتوسط وغازه، وأهمية الحقول المتعددة في لبنان واسرائيل ومصر أنها قريبة من أوروبا وتكون كلفة النقل اليها ضئيلة.

المشروع الأساس اليوم حول كيفية ايصال الغاز الى أوروبا بعد الانتاج؟ الغاز سيتجه الى أوروبا عن طريق تركيا، فهل يرضى “حزب الله” أن يمر الغاز الاسرائيلي عبر الشواطئ اللبنانية والسورية؟ تركيا هي البلد الوحيد في المنطقة التي لديها معمل لتسييل الغاز، كما أن مصر تملك هذا النوع من المعامل لكنها بعيدة عن أوروبا. هناك الكثير من الأمور التي نوقشت، وتم التوافق عليها وستظهر تباعاً. الحزب يراهن على الوقت، ويصبح الاعتراض على مد الأنبوب شكلياً بعد الانتاج. ولاحظنا في الفترة الأخيرة التناغم بين اسرائيل وتركيا، وذلك بسبب الغاز. من ناحية ثانية، السؤال اليوم ماذا بعد الترسيم؟ ما هو مصير سلاح “حزب الله”؟ هذا السلاح لم يعد يشكل ضمانة للاستقرار في لبنان، بل عبء لأن الانتاج النفطي والغازي يتطلب استقراراً أمنياً وأي خلل في العلاقة بين الحزب والعدو، يؤدي الى إحجام الشركات عن الاستثمار. وأشارت السفيرة الأميركية دوروثي شيا الى أن مستقبل لبنان واعد وأن الشركات ستباشر بالاستثمار، وعندما يقال استثمار يعني استقراراً أمنياً، واذا لم يتوافر الاستقرار الكلي فلا يحصل الاستثمار، وهناك مثل شعبي يقول “رأس المال جبان”. والأمن لا يستقر بوجود سلطتين أمنيتين: “حزب الله” والمؤسسة العسكرية اللبنانية، فلا بد من سلطة واحدة. كيف سيكون مستقبل لبنان مستقراً وواعداً بوجود سلطتين مسلحتين؟ علينا أن نكون واقعيين ونقرأ الأمور بتفاصيلها، والترسيم بداية متغيرات في المنطقة. وهنا لا بد من التأكيد أن “حزب الله” لن يتخذ قراراً بمستوى الترسيم من دون موافقة ايران، وهو مضطر اليه لأنه بحاجة الى المال خصوصاً أن ايران عاجزة عن دعم أي مجموعة من مجموعاتها في العالم العربي والاسلامي، وهذا ما يبرر قول السيد حسن نصر الله “اننا نريد أن نأكل العنب”. اذاً، المطلوب أن تمول هذه المجموعات نفسها. ومصلحة ايران في الترسيم تكمن في عدم السماح بانهيار الحزب أو خسارة سيطرته على لبنان وألا يدخل في صراع عسكري مسلح ضد اسرائيل، ويخسر الحرب وهي عاجزة عن دعمه، كما لا مصلحة لايران بأن يدخل الحزب في حرب أهلية تفقده هالة المقاومة، ولديها مصلحة باستمرار الاستقرار في لبنان. و”حزب الله” يهمه الترسيم وهو ممسك بمؤسسات الدولة. واسرائيل تلقفت هذه الرغبة في الترسيم، واستثمرت فيها بترسيخ الخط 29، وترسيخ الخط 23 على أنه منطقة متنازع عليها. والمفاوضون اللبنانيون يحاولون إظهار الترسيم وكأنه انجاز لهم والعكس صحيح، انه انجاز لاسرائيل على حساب لبنان. اليوم علينا أن ننتظر الى ما بعد الترسيم. في الأشهر الأخيرة لم تكن المفاوضات على الترسيم انما حول مرحلة ما بعد الترسيم أي كيف ستكون العلاقة بين لبنان واسرائيل؟ وما هو وجه التعاطي؟ خصوصاً أنه كان هناك رفض في البداية لأي شيء مشترك بين لبنان واسرائيل ان كان اقتصادياً أو غير اقتصادي. “حزب الله” كان يقول دائماً عن اسرائيل الكيان المغتصب، فماذا يمكن أن نسميه اليوم بعد الترسيم الذي هو اعتراف حقيقي بكيان موجود اسمه دولة اسرائيل؟ كيف ستكون علاقة الحزب اليوم بالمنظمات الفلسطينية؟ هل سيبقى هذا الكيان مغتصباً ومحتلاً أو ستكون دولة اسرائيل؟ ولا بد من الاشارة الى أن من أسباب تأخير التوقيع أن الحزب كان يشترط ألا يحصل توقيع رسمي على المستوى اللبناني بوجود الاسرائيلي، لكن اليوم سيتم التوقيع في الناقورة حيث يحضر الفريقان ويوقعان بوجود الوسيط الأميركي، والأمم المتحدة ستبلغ اتفاقهما، ولن تتلقى رسالتين منفصلتين ما يعني أن هذا شكل من أشكال التطبيع شئنا أم أبينا بغض النظر عن التسمية التي ستخترع لتبرير ما جرى. وبعد الترسيم تأتي المصلحة والمنفعة الاقتصادية المشتركة بحيث أن الحقل الذي تستفيد منه اسرائيل سيستفيد منه لبنان يعني أننا دخلنا في تطبيع اقتصادي، وهذا ما يتم تجهيله من المفاوضين لأن العهد يريد أن ينجز أي ملف في عهده والحزب يريد الخروج من أزمته المالية.

وعلى صعيد الترسيم الرئاسي، فإن الجلسة الثانية لانتخاب رئيس للجمهورية ستعقد اليوم الا اذا لم يكتمل نصابها، خصوصاً أن تكتل “لبنان القوي” يتجه الى عدم المشاركة فيها بسبب مصادفتها مع ذكرى 13 تشرين، لكن من المتوقع أن تسير على ايقاع الجلسة الأولى أي لن تؤدي الى انتخاب رئيس. كما أن تصويت الكتل لن يختلف كثيراً، وخارطة التموضعات أصبحت واضحة على الشكل التالي: قوى المعارضة التي لم تتمكن من توحيد صفوفها، ستجدد الأحزاب التقليدية فيها أي “القوات” و”الكتائب” و”اللقاء الديموقراطي” التصويت لصالح النائب ميشال معوض، فيما كتلة نواب “التغيير” لم تعلن عن خيارها علماً أنها حددت سابقاً أربعة أسماء: سليم إده الذي انتخبته في الجلسة الأولى، وزياد بارود وناصيف حتي وصلاح حنين. أما على ضفة الموالاة غير المتفقة أيضاً على اسم، فمن المرجح أن تعمد الى خيار الورقة البيضاء كما في الجلسة السابقة. ويبقى النواب السنّة الذين توزّعت أصواتهم في الجلسة الأولى بين خيار التصويت لـ “لبنان” وللنائب معوض وقلة منهم بورقة بيضاء، اذ يرى البعض أنهم لن يكونوا مع فريق ضد آخر وأن تمايزهم يصب في الخانة الايجابية بمعنى أنهم أصبحوا بيضة القبان في الاستحقاقات الدستورية خصوصاً عند الاقتراب من نقطة الحسم في الانتخابات الرئاسية.

إذاً، العين اليوم على النواب السنة الذين يمسكون العصا من وسطها، لكنهم لم يتخذوا موقفاً موحداً على الرغم من لقاء دار الفتوى الذي حاول ترتيب البيت السني وتوحيد الموقف في الحد الأقصى الممكن خصوصاً في العناوين الوطنية العريضة والاستحقاقات الدستورية، في حين برزت جولات السفير السعودي وليد بخاري على مختلف المرجعيات التي رأى فيها البعض استكمالاً لجهود توحيد الموقف .

وفي هذا الاطار، لفت أحد النواب السنة الى أن بعضهم يلتزم بخط الموالاة، والقسم الأكبر منهم يعتبر دار الفتوى المظلة الأساسية لهم، مشيراً الى أن دار الفتوى لن توعز بالتصويت لشخص معين. السنّة عبر التاريخ كانوا ولا يزالون ضد الانقسامات والفتنة، وفي المحطات المفصلية هم الأقرب الى الدولة، ويريدون أن يكون الجميع تحت سلطة القانون والدستور. قناعتنا أنه لا يمكن أن نكون جزءاً من الاصطفافات الموجودة في البلد لأننا نكون حينها نساهم في التعطيل. لذلك، موقفنا يتناغم مع دار الفتوى، ونحن نلعب دوراً أساسياً، ونساهم في الوصول الى جو توافقي أو إيصال رئيس توافقي في لحظة معينة تتقاطع فيها الظروف المحلية مع تلك الاقليمية والدولية. كل الكتل النيابية التي تهمها مصلحة البلد ستلتقي في نهاية المطاف على طاولة واحدة للتباحث في القواسم المشتركة وصولاً الى التوافق على رئيس لا يكون طرفاً بل حكم .

وفي سياق آخر، صدّقت محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي صقر صقر قرار إخلاء سبيل الموقوفين كافة على خلفية حوادث الطيونة، أكان من طرف “حزب الله” أو من “القوات”، مقابل كفالة مالية، وذلك بعد نحو عام على تلك الأحداث التي حصلت في 14 تشرين الأول 2021.

شارك المقال