جلسة ولدنة بإنتظار أمر الخارج

لبنان الكبير

ما يراه اللبنانيون ويعيشونه ويلمسونه غريب عجيب ربما لن يحصل الا في بلد تحكمه سلطة غريبة عجيبة، فالمفارقة الكبرى أن مكونات هذه السلطة تمكنت من الاتفاق مع عدو، وهللت وهنأت وفرحت بذلك الانجاز، لكنها فشلت وتعذر عليها الى حد الاستحالة التوافق في ما بينها على تأليف حكومة أو انتخاب رئيس أو حتى الجلوس الى طاولة واحدة في المكان عينه. وهنا نسأل: هل كتب على لبنان أن يعيش على فالق التعطيل الخطير؟ وهل بتنا بحاجة الى وسيط ليجمع نواب الأمة تحت سقف البرلمان أو في قاعة السراي الكبير؟

ما جرى بالأمس في الجلسة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية مهزلة وأقل ما يقال فيه انه تعاط “ولادي وصبياني” مع أهم الاستحقاقات الدستورية، وفي أخطر مرحلة سياسية واقتصادية وأدقها وفق أحد السياسيين المخضرمين.

وكما كان متوقعاً، لم تعقد الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب، فعند الحادية عشرة، قرع الجرس في مجلس النواب، ايذاناً بانطلاق الجلسة التي تفصلها أيام عن انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 الجاري، لكن عند قرع الجرس، كان النواب يغنون مواويلهم الخاصة، فمنهم من حضر الى المجلس ولم يدخل الى القاعة، وفضّل تناول القهوة والدردشة مع الزملاء من بعيد لبعيد، ومنهم من شارك لكن المشاركة لم تأت بثمارها على قاعدة “تيتي تيتي متل ما رحتي متل ما جيتي”، ومنهم من اعتذر وتغيب بداعي السفر أو المرض. وفي المحصلة، طارت الجلسة بعد أن بلغ عدد الحاضرين 89 نائباً، لم يبق منهم في القاعة العامة سوى 71 نائباً.

وفيما كان واضحاً أن تكتل “لبنان القوي” لن يشارك في الجلسة، اقتصرت مشاركة “حزب الله” على رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، فيما وقف النواب الباقون خارج البرلمان، ولم يدخلوا إلى القاعة تماهياً مع موقف “التيار الوطني الحر”، لكن مصدراً نيابياً حضر الجلسة أكد لـ “لبنان الكبير” أن عدداً من نواب “الوفاء للمقاومة” شارك في الجلسة، ولم يقتصر حضورهم على النائب رعد، وأن سبب عدم الدخول هو غياب التوافق على رئيس، والمعرفة المسبقة أنها لن تؤدي الى نتيجة، وهذا الموقف لا يرتبط مباشرة بالتضامن مع “التيار”.

وبعد تطيير النّصاب، شكا بعض النّواب، قائلين: “كنّا وفّرنا بنزين”. وبعد أن قال رئيس مجلس النواب نبيه بري “شوفولي إذا في حدا برا”، وكانوا كثراً في الخارج، أعلن عدم اكتمال النصاب وارجاء الجلسة الى 20 الجاري، وعن جلسة دستورية للجان في 18 منه.

وفي هذا الاطار، اعتبر أحد النواب أن جلسة الأمس كالتي سبقتها بحيث أن بعض الكتل النيابية ليس جاهزاً لانتخاب مرشح معين، لذلك نرى المقاطعة. وبتنا نشهد على مسلسل مزايدات شعبوية بحيث أن هذا التاريخ يناسب هذه الجهة وذاك لا يناسب تلك الجهة. اذا اختارت كل كتلة تاريخاً للمقاطعة فسيكون هناك مسلسل مكسيكي طويل من التعطيل. التجربة تثبت أننا غير مؤهلين لأن نكون أحراراً وأصحاب موقف. كل فريق متمترس في متراسه ولا أحد يقدم تنازلاً. للأسف، اللبنانيون مستعدون لأن يتنازلوا تنازلاً كلياً للخارج وغير مستعدين للتنازل لبعضهم البعض ولمصلحة بلدهم 20 في المئة.

فيما رأى نائب آخر أن الجلسة أظهرت تهرب فريق الممانعة من مواجهة الرأي العام بمرشح، متسائلاً: هل ننتظر المواقف الخارجية، ولم يعد باستطاعتنا تحمل مسؤوليتنا الوطنية والدستورية؟ على أي اساس تم انتخاب النواب؟ أليس للحفاظ على الدستور، واجراء الاستحقاقات في الوقت المناسب؟ البلد منهار، والناس تعاني ما تعانيه، ونحن بسبب الكيدية السياسية وشهوة السلطة والحسابات الضيقة، يحصل ما يحصل. اذا كنا غير قادرين على تسوية داخلية والحفاظ على بلدنا، فهذا يعني أننا دولة فاشلة وغير قابلة للحياة.

أما أحد نواب تكتل “لبنان القوي”، فأوضح أن موقفنا بعدم المشاركة طبيعي في مثل هذا اليوم، وكنا نتمنى لو أن الأطراف احترمت الذكرى كما نحن نفعل حتى لو كنا نختلف معهم في السياسة. ألبسونا في الجلسة التعطيل وعدم اكتمال النصاب على الرغم من أن نتيجتها واحدة ان كانت في هذا اليوم أو غيره، كما أن من غير الممكن أن نفقد وحدنا نصاب الجلسة. لم نطلب من أحد أن يتضامن معنا وكل طرف لديه حرية الاختيار، ونحن اتخذنا الموقف الذي يناسبنا.

وفي قراءة لما يحصل على صعيد الاستحقاق الرئاسي، أحد المحللين: “في المبدأ ما يجري في الجلسات الانتخابية ليس سيناريو تعطيلياً بقدر ما هو عدم نضوج المرحلة. الاستحقاق الرئاسي لا يتوقف على النصاب من عدمه بل هو قضية نضوج جو ما أو مرحلة ما، وهذا النضوج لم يكتمل، وان كان هناك في المنطقة بعض المؤشرات الايجابية التي تظهرت في ملف الترسيم، وممكن أن تتظهر على صعيد أكثر من ملف وقضية. سنشهد جلسات متتالية، وهنا اختلاف في وجهات النظر ان كانت جلسات متتالية أو دورات بحيث أن آلية الانتخاب تختلف. الرئيس بري يختم محضر كل جلسة، والجلسة اللاحقة تكون جلسة جديدة. وكل النصوص خاضعة للتفسير والاجتهاد. وبالتالي، سنكون أمام دعوات متتالية لانتخاب الرئيس لأن من واجبات البرلمان أن يقوم بدوره. وهنا نسأل: من يمنع النواب من الجلوس الى الطاولة والتوافق على اسم شخصية لرئاسة الجمهورية اذا كانوا لا ينتظرون المؤشرات الخارجية؟ اليوم هناك انقسام عمودي، وهناك اختلافات داخل كل جهة بحيث أن المعارضة ليست موافقة بكل أطيافها على تسمية النائب ميشال معوض، كما أن الموالاة حذرة في التعاطي مع الملف الرئاسي ولا اسم لديها لطرحه لسببين: لأنها لا تريد حرق الأسماء كما لا توافق في ما بينها على اسم، اذ هناك عقدة في التسوية بين النائب جبران باسيل والنائب السابق سليمان فرنجية. التفاهم والنضوج لم يصلا الى مستوى عمق وجوهر الأزمة السياسية التي ستتبلور بالتوافق على رئيس للجمهورية. والسؤال هنا: هل التفاهم سيأتي بشكل كلمة سر أو بشكل مؤتمر يشبه الدوحة بعد فترة من الشغور؟ لا يمكن الاجابة عن هذا السؤال حاليا لكن هذه هي الاحتمالات المطروحة اليوم”.

وأشار الى أن الأزمات الكبرى لا تكون كل انعكاساتها سلبية، فالأزمة الروسية – الأوكرانية تساهم في بعض الحلحلة في منطقة الشرق الأوسط التي عادت الى دائرة الاهتمام كمصدر أول للطاقة. كما أن فرنسا من بعد أزماتها وانكفائها في بعض الدول، يحتاج رئيسها الى لبنان كمنصة ليطل من خلالها على السياسة الخارجية، وكان له دور كبير في الترسيم وإن لم يظهر الى العلن. ومن المنتظر أن يلعب دوراً كبيراً ومهماً في المستقبل في موضوع الاستحقاق الرئاسي. وهنا لا نقول ان تسهيل الترسيم سيؤدي الى تسهيل الاستحقاقات الدستورية، انما هذه الاستحقاقات تحتاج الى جو ايجابي، ونضوج مرحلة معينة، وبوادر هذا الجو بدأنا نراها من خلال الترسيم. لكن على الرغم من ذلك، لا يجوز التسليم بأننا ذاهبون الى الانتخابات الرئاسية بطريق معبدة وسهلة. ولا بد من التأكيد أنه عندما تكون الدول تعاني من الأزمات ليس صحيحاً أنها تنكفئ عن العالم الخارجي وعن السياسة الخارجية، وتتلهى بأمورها الداخلية بل على العكس، الدول في الأزمات تكون بحاجة الى تمتين علاقاتها وتقوية موقعها وموقفها لأنه بعد كل أزمة هناك مفاوضات، وفي مرحلة الأزمة تحضر الدول أوراقها. وبالتالي، سنرى في المرحلة المقبلة، اهتماماً فرنسياً استثنائياً بلبنان على الرغم من الأزمة الأوروبية وأزمة الطاقة، وتحديداً في الملف الرئاسي. ووفق بعض المعلومات غير المؤكدة قد نشهد زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى لبنان، تكون شبيهة بالزيارة التي قام بها بعد انفجار مرفأ بيروت. شئنا أم أبينا، الملف اللبناني مدول. بعد أيام تنتهي الولاية الحالية وسندخل في مرحلة الشغور، وسيحصل استطلاع لآراء القوى السياسية، ولا بد أن الفرنسيين يحضرون طبخة رئاسية، يمررونها بطريقة ما في الأوساط السياسية عبر السفراء وصولاً الى مرحلة نضوج ما، تتكلل بزيارة الرئيس الفرنسي الذي يعاني على مستوى السياسة الخارجية كما يعاني من ضغوط داخلية على صعيد الطاقة، وبالتالي، يشكل لبنان منصة لحركته السياسية الخارجية، وقد يكون الملف اللبناني حاجة. وزيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إلى لبنان تأكيد لاصرار فرنسا على تمسكها بدورها أو بحصتها في السياسة اللبنانية الداخلية، وتريد الاستثمار في هذه الحصة حتى النهاية بحيث أن لبنان عقدة ربط في منطقة الشرق الأوسط، ويشكل حاجة للسياسة الخارجية الفرنسية. وهنا لا يجوز التقليل من أهمية القوى في الداخل ودورها خصوصاً أن النواب هم الذين ينتخبون الرئيس، كما أن ليس كل القوى متعاونة مع الذبذبات الخارجية، لكن هناك جو يتشكل في الخارج، وينعكس على الداخل اللبناني. مع العلم أن هناك لاعبين على الساحة الداخلية قادرون في لحظات معينة على اقتناص الفرص وتدوير الزوايا وايجاد الحلول، وتمريرالاستحقاق الرئاسي، وهذا ما شهدناه في مراحل سابقة. نحن ذاهبون الى شغور ربما يستمر الى 6 أشهر بحيث تتظهر أمور كثيرة على صعيد المنطقة، ونحن لسنا جزيرة معزولة أو مكتفية اقتصادياً وسياسياً، لا بل نتأثر بكل الزوابع في المنطقة والعالم، على أمل أن تكون ارتدادات الزلازل الاقليمية والدولية بمثابة صعقة كهرباء لجثة هامدة، فتعيد اليها الروح من جديد، وتحيي العجلة المعيشية والاقتصادية بحيث أن آخر أولويات الناس اليوم الأحوال السياسية .

من جهة ثانية، أجرى رئيس الجمهورية ميشال عون اتصالين هاتفيين بكل من الرئيس بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وبحث معهما في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية في ضوء الصيغة النهائية التي أرسلها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين قبل أيام.

وعلى الصعيد الحكومي، أكد مصدر متابع لـ”لبنان الكبير” أن الأفق يضيق أمام تشكيل الحكومة، وخلال أيام قليلة اذا لم تحصل معجزة، فيمكن القول ان الملف الحكومي طوي على الرغم من بصيص الأمل المعلق على الوساطة التي لا تزال قائمة. وبالتالي، فإن حكومة تصريف الأعمال هي التي ستدير شؤون البلد في مرحلة الشغور الرئاسي في ظل التخوف من التفسيرات والاجتهادات الدستورية .

وعلى ايقاع التعطيل والشغور والانقسامات والاختلافات بين القوى السياسية، ستجري وزيرة الخارجية الفرنسية، التي وصلت الى بيروت مساء أمس، معاينة ميدانية للواقع السياسي اللبناني، وتلتقي الرؤساء. وستذكر الوزيرة، بحسب بيان للخارجية الفرنسية، بتمسك فرنسا بحسن سير عمل المؤسسات اللبنانية، وستؤكد أن من الملح أيضاً أن تكون للبنان حكومة كاملة، لإخراجه من الأزمة الخطيرة جاًا التي يواجهها منذ شهور، كما وتنفيذ الاصلاحات الاقتصادية والمالية المنصوص عليها في الاتفاق الموقع في نيسان مع صندوق النقد الدولي، التي تعتبر أساسية في سياق الحالة المقلقة للغاية في البلد. وستكون فرصة للترحيب بالاتفاق التاريخي بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والذي عملت فرنسا من أجله مع شركائها الدوليين. وفي ختام هذه الزيارة، ستلتقي بالمتطوعين الشباب من الصليب الأحمر.

شارك المقال