ذكرى خيبة في توقيت سويسري خاطئ

لبنان الكبير

في 17 تشرين 2019، اندلعت ثورة بحجم الوطن، وحجم الحلم بتغيير طبقة فاسدة، سرقت ونهبت وسمسرت وباعت مستقبل أجيال بأكملها، لكن مخططاتها الجهنمية، وتجذرها وتشبثها بالسلطة حتى لو أودت بالبلد الى سابع جهنم، نجحت في اطفاء شعلة الحياة، وحولت لبنان الأخضر الى بقعة رمادية لا حياة فيها حيث شابات وشبان في زهرة العمر هشلوا وهربوا وطفشوا براً وبحراً وجواً بلا رجعة، ولا بصيص ضوء في نهاية نفق كيدياتهم وأنانياتهم المظلم، ولا جرعة أمل بعودة الروح الى المؤسسات الدستورية التي أُنهكت بفعل الفراغ والتعطيل، وهم اليوم يسكرون بثروة نفطية ستزيد من جشعهم وطمعهم ونهمهم بعد أن فقدوا ثروة البلد الحقيقية، هؤلاء الشباب الذين هتفوا ذات يوم “كلن يعني كلن”، لكن وحده الرئيس سعد الحريري استجاب لرغبة شعب مظلوم، تحول اليوم الى شعب منهوب، منكوب، منتوف، يفتش عن قشة نجاة من سلطة ضيقت الخناق على رقبته حتى النفس الأخير.

لبنان بعد ثلاث سنوات من الثورة مشلع ومفتت ومهترئ، لكن ثوار 17 تشرين يرفضون الاعتراف بأن ثورتهم فشلت، وماتت في مهدها قبل أن تحقق أحلامها، ويقولون انها زرعت في نفوس كل اللبنانيين بحيث أن الأداء السياسي اختلف، حتى من كانوا ضد الثورة لم يخرجوا من آثارها، ولمسنا نتائجها في انتخابات رئاسة المجلس النيابي، وفي الموازنة العامة، وفي كثير من المحطات التي كانت تمر مرور الكرام، وذلك ليس بفضل النواب الـ 13 الذين لم يكونوا على قدر المسؤولية انما بفضل تكون رأي عام يحاسب، وهنا تكمن أهمية الثورة. القضية لم تعد في الطريق، وهناك عمل تنظيمي يختلف، وحين يتطلب الأمر النزول الى الشارع، فالثوار جاهزون .

وفي الذكرى الثالثة لثورة 17 تشرين، شاركت مجموعات في إحيائها في ساحة الشهداء، وانطلقت مسيرة من هناك باتجاه مجلس النواب.

واذا كانت الثورة ماتت في مهدها، فإن كثيرين اعتبروا أن المؤتمر المزمع عقده في جنيف الشهر المقبل مات قبل أن يولد، اذ منذ الانتخابات النيابية الفائتة، بدأ الحديث في الكواليس السياسية عن امكان عقد مؤتمر في احدى العواصم الأوروبية من أجل لبنان لكن لم تكن معالمه قد توضحت بعد، ومن سيشارك فيه وبأي أهداف الى أن برزت قبل أيام، الدعوة السويسرية لعدد من النواب والفاعليات السياسية الى جانب مفكرين ومثقفين وجامعيين، إلى عشاء كان من المفترض أن يُقام مساء اليوم قبل تأجيله الى موعد لاحق بحسب بيان السفارة السويسرية، في منزل السفيرة السويسرية لدى لبنان ماريون ويشلت، للتشاور في عدد من القضايا اللبنانية. الدعوة التي لم توجّهها الدولة السويسرية انما منظمة سويسرية غير رسمية، برعاية وزارة الخارجية السويسرية، وبالتفاهم مع السفيرة السويسرية في لبنان، تهدف إلى تهيئة الأجواء لمؤتمر وطني سيُعقد الشهر المقبل في جنيف الا أن لا شيء محسوم في هذا الشأن، لأن نتائج النقاشات في العشاء المؤجل هي التي كانت ستحدد ان كان سيعقد لقاء في جنيف أو لن يعقد، في حين أكد عدد من النواب أن كل ما يحكى في الاعلام عن مؤتمر في جنيف غير دقيق، ولم يطرح على أي جهة سياسية، ولم تتم الدعوة اليه لا من قريب ولا من بعيد.

وأشارت المعلومات الى أن العشاء كان سيجمع كلاً من النائب علي فياض عن “حزب الله”، النائب آلان عون عن “التيار الوطني الحر”، النائب وائل أبو فاعور عن الحزب “التقدمي الاشتراكي”، النائب ابراهيم منيمنة عن كتلة نواب “التغيير” ومستشار الرئيس نبيه بري، علي حمدان عن حركة “أمل”، فيما أعلنت الدائرة الاعلامية في “القوات اللبنانية” أنه بعدما تحوّلت مقاربة لقاء العشاء في السفارة السويسرية من مناسبة محض اجتماعية إلى طاولة حوار يتمّ التحضير لها داخل البلاد أو خارجها في هذا الظرف بالذات، طلبت “القوات” من النائب ملحم رياشي الاعتذار عن عدم المشاركة في هذا العشاء لأن البلاد بحاجة إلى انتخابات رئاسية تعيد الاعتبار الى دور المؤسسات الدستورية تحت سقف الدستور وتعيد تصحيح الانقلاب على اتفاق الطائف وليس الى حوارات عقيمة لا تؤدي الى أي نتيجة. وأصدرت السفارة السويسرية بياناً، لفتت فيه الى أن الأسماء المتداولة في وسائل الاعلام لا تشمل أسماء المدعوين فعلياً.

وفيما اعتبر عدد من النواب أن العشاء لو حصل لما كان ليتعدى اطار الندوة السياسية، ولا يجوز تحميله عناوين أكثر مما يحتمل، ولن يؤدي الى مؤتمر لاحق في جنيف، ما يعني أن هذا المؤتمر، ولد ميتاً، غرّد السفير السعودي وليد بخاري الذي زار بعبدا وعين التينة، قائلاً: “وثيقة الوفاق الوطني عقد مُلزم لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعددي، والبديل عنها لن يكون ميثاقاً آخر بل انفكاك لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحَّد واستبدالهُ بكيانات لا تُشبه لبنان الرسالة”.

وأكد أحد المطلعين في حديث لموقع “لبنان الكبير” أن العشاء لو حصل لكان بمثابة جس نبض للأفرقاء اللبنانيين حول قضايا متعددة، وينتهي عند هذا الحد بحيث أن مكوناً أساسياً غير موجود على الطاولة، وهو الطائفة السنية كما أنه لا يجوز أن نتوقع منه أي نتائج أو قرار. المؤتمر يكون جدياً ويثمر نتائج حين نرى قيادات الصف الأول على الطاولة، ومجرد استثناء أي مكون من اللقاء يعني الفشل وخروجه بلا نتيجة بمعنى أنه لن يقدم ولن يؤخر في الحياة السياسية اللبنانية. هناك مؤتمران يعدان للبنان: الأول اقتصادي والآخر سياسي، والأخير يطرح فكرة عقد جديد أو صيغة جديدة لكن انطلاقاً من اتفاق الطائف. اما المؤتمر المالي، فسيدخل لبنان في اتفاقيات اقتصادية بحيث تتشارك كل دول المنطقة في مشروع واحد لبيع الغاز. ومن الطروحات أن يعقد المؤتمران في فرنسا أو في مصر أو في الامارات، ويفضل عقدهما في دولة عربية تكون مقبولة من كل الأطراف اللبنانية.

وفي قراءة للقاء السويسري وتأجيله، عزا أحد المحللين التأجيل الى أن عدداً كبيراً من المدعوين انسحب بعدما اتضحت وجهة العشاء والى ماذا سيؤسس، بحيث من الواضح أنه يؤسس لمؤتمر سيعقد في جنيف الشهر المقبل للبحث في صيغة جديدة ربما تؤدي الى تغيير اتفاق الطائف أو تجويفه. ومن الواضح أيضاً أن غالبية المدعوين الى المؤتمر هي القوى السياسية التي تقف في المعسكر المعادي لاتفاق الطائف. القوى السيادية استدركت الموضوع، وانسحبت من العشاء لأنها لا تريد تبني طروحات تضرها بالدرجة الأولى، وتضر البلد عموماً لأن أي تلاعب باتفاق الطائف في هذه المرحلة هو تلاعب بأسس الكيان اللبناني، ويترتب عليه تداعيات خطيرة على الوضع الداخلي. نحن نعرف أن الطائف أتى بعد 15 سنة من الحرب و200 ألف شهيد، وقوام المؤتمر الأساس المزمع عقده، اتفاق الطائف، والأطراف الاساسية المدعوة اليه هي في محور الممانعة، وهذا يثير الهواجس من أن تذهب هذه الأطراف التي لا تؤيد الاتفاق، الى البحث في مؤتمر تأسيسي جديد حتى الآن هناك مكونات فاعلة غائبة عنه، وهذا يؤدي الى خلل كبير. هذا عدا عن أنها دعوة مفاجئة بغياب رعاية اقليمية فاعلة، بحيث أن أي اتفاق يتعلق بموضوع لبنان اذا كانت الدول العربية غائبة عنه لا يملك مقومات النجاح، ونعلم أن اتفاق لوزان لم ينجح بسبب غياب المكون السني والدول العربية. التاريخ يعيد نفسه، ونحن أمام مرحلة شبيهة بما حصل في السابق. يبدو أن هناك بعض الدول يريد اعطاء جائزة ترضية لـ “حزب الله” مقابل تسوية داخلية. هل جائزة الترضية يكون قوامها المثالثة من جديد أو صيغة أخرى؟ هناك شيء من هذا القبيل يطبخ في الكواليس. الأطراف التي انسحبت من اللقاء أو اعتذرت، استدركت خطورة أن تكون طرفاً في هذا الموضوع أو ترضى بأي صيغة تنسف اتفاق الطائف والدستور لأنه سيكون لذلك تداعيات خطيرة على الوضع الداخلي. السويسريون حددوا موعداً للمؤتمر في 22 الشهر المقبل، وصحيح أن العشاء يمكن أن يكون له طابع اجتماعيا، لكن بالتأكيد أيضاً سيناقش جدول أعمال يمكن أن يكون على طاولة المؤتمر الذي سيعقد في جنيف. وبالتالي، من يريد أن يكون شريكاً في اللقاء الذي يؤسس لهذا المؤتمر يعني أنه شريك بالمؤتمر، ويتحمل تبعاته ونتائجه في المرحلة المقبلة. وهنا نسأل: هل لبنان اليوم قادر على تحمل تداعيات التفرد بصيغة جديدة تكون لها نتائج وخيمة على البلد؟ الطروحات ستسبب خللاً في التوازنات الدقيقة في البلد وربما هناك تطيير للمناصفة والحديث عن مثالثة يمكن أن تكون واضحة أو مقنعة وربما يكون لها دور في حماية سلاح “حزب الله” في المرحلة المقبلة، وفيها انقلاب على قرارات الشرعية العربية وعلى قرارات الأمم المتحدة. اذا قبلت القوى السياسية نسف هذه القرارات، فلتتحمل مسؤولية العواقب الوخيمة. والسؤال البديهي الذي يطرح: لماذا تغييب فريق أساس عن اللقاء؟ الا اذا كانوا يعتبرون أن نواب التغيير يمثلون الطائفة السنية، وهذا خاطئ لأن ليس كل نواب التغيير من الطائفة السنية، ثم ان النواب السنة في قوى التغيير هم الذين قاطعوا اجتماع دار الفتوى، ولا يمثلون المكون السني. اليوم، اللقاء يثير الكثير من الارتياب والالتباس في هذه المرحلة الدقيقة. هناك تحولات تحصل على مستوى المنطقة، والمطلوب تقديم جائزة ترضية لـ “حزب الله” لكن هذه الجائزة لا يمكن لأي طرف معين أن يتفرد بها ويفرضها على اللبنانيين لأن أي خلل في التوازنات ستكون له نتائج وخيمة على البلد. لا نعرف الى أي حد الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا، مستفيدة من الفتور الحاصل في العلاقات الأميركية – السعودية، وربما تريد اغتنام الفرصة لتمرير مثل هذا الاتفاق، واليوم تكون ترضي ايران ومن خلفها “حزب الله”. في عز الاشتباك الغربي الايراني والغربي مع “حزب الله” كانت قنوات الاتصال الفرنسية مع الحزب قائمة على أعلى المستويات، وبالتالي، هل يغتنم الأوروبيون وتحديداً الفرنسيون والسويسريون، المرحلة اليوم لتمرير مثل هذا الاتفاق، ويقولون ان اللبنانيين اختاروا هذا الحل؟ انها فرضية موجودة، لكن في حال توصلوا الى اتفاق كهذا من يضمن تطبيقه في الداخل؟ لا أحد اليوم يمكن أن يتفرد بقرار كهذا اذا لم يكن هناك قبول به أو اجماع عليه في الداخل اللبناني أولاً، وأن يحظى بغطاء عربي ودولي ثانياً. لذلك، هناك التباس كبير في هذا اللقاء، ومجرد أن تعلن السفارة السويسرية تأجيل العشاء يعني أنها نسفته خصوصاً أن هناك استحقاقات أساسية في البلد اليوم، ولا ندري ان كان اللقاء أو المؤتمر يتناغم مع دعوة النائب جبران باسيل الى التفاهم على رئيس جديد للجمهورية. واذا كان هذا المؤتمر سيأتي برئيس جمهورية يشبه الرئيس ميشال عون أو يكون وليد ارادة “حزب الله” فسيكون الرئيس الذي يمدد الأزمة الى 6 سنوات جديدة.

شارك المقال