باسيل “الأمين” على إرث “نحكم أو ندمر”

لبنان الكبير

اذا كان السبب الرئيس لانتشار الكوليرا في لبنان تلوث بعض مصادر المياه، فإن السبب الرئيس والمباشر لتدمير البلد وتعطيل مؤسساته، الطبقة السياسية التي تفشل في كل شيء حتى في اجراء الاستحقاقات البديهية والعادية ما يستدعي من دول العالم التدخل رأفة بالشعب، ويكاد لا يخلو يوم من توجيه رسالة أممية الى المسؤولين بضرورة تحسين السلوك ووضع المصالح الشخصية جانباً، وآخرها من أعضاء في الكونغرس الأميركي الى وزير الخارجية انتوني بلينكن لحضه على أن يبذل والديبلوماسية الأميركية كل الجهود اللازمة لمواكبة اتمام استحقاق انتخاب رئيس جمهورية للبنان في موعده الدستوري، رئيس يحقق استقرار لبنان واستقلاله وسيادته ويمنع تحوله الى دولة فاشلة. وهكذا، وعلى بعد أيام من انتهاء ولاية العهد الحالي، والانطلاق في مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان، سيصدر اللبنانيون سجلاً عدلياً للطبقة الحاكمة كتب عليه بخط أسود عريض: محكوم عليها بالفساد والتعطيل ويجب ملاحقتها بسبب الاهمال الوظيفي وتعريض المصلحة العليا للدولة الى خطر محدق.

انها الطبقة نفسها التي تتسبب بهذا الانسداد السياسي، فقد حوّلت جلسات انتخاب رئيس الجمهورية الى مسرحية هزلية، وجعلت من التشكيل الحكومي انجازاً تاريخياً أصبح تحقيقه حلماً بعيد المنال بحيث أن عملية “شد الحبال” لا تزال قائمة، وكل المساعي التي يبذلها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم و”حزب الله” لم تفلح حتى الساعة في خرق جدار العقد والمطالب القديمة الجديدة في ظل اصرار النائب جبران باسيل على شروطه، فيما يصر الرئيس المكلف نجيب ميقاتي على عدم الخضوع للشروط المسبقة ليس بهدف العناد، انما لأن هناك ثوابت لا يمكن الخروج عنها، كما أنه يريد ضمان أن الحكومة اذا تشكلت ستحصل على ثقة مجلس النواب.

وفيما يتم الحديث عن أكثر من صيغة وعقدة ومنها متعلقة بالوزراء المسيحيين، بحيث أن النائب باسيل يريد تغيير 3 وزراء يختارهم هو من دون اطلاع الرئيس المكلف على أسمائهم الا قبل تسليم الأخير التركيبة الوزارية الجديدة الى رئيس الجمهورية، مع العلم أنه لا يريد اعطاء الثقة للحكومة ليبقى خارج المحاسبة والمساءلة، أكد مصدر مواكب لعملية التأليف أن المساعي قائمة واللواء ابراهيم زار الرئيس نبيه بري أمس في هذا الاطار، الا أننا نفضل عدم الافصاح عن مجريات اللقاء، فالطبخة الحكومية تطبخ بعيداً عن الاعلام تسهيلاً لولادتها لكن الى اليوم يمكن القول ان المسائل لا تزال معقدة، وان بصيص الأمل قليل لكن التعويل على الوسطاء الذين يجهدون في التشكيل لتجنيب البلاد الفوضى الدستورية والسياسية. اذاً، لم يسجل أي جديد يذكر في التأليف في الساعات الماضية، ونتمنى أن تفضي الاتصالات الى قواسم مشتركة والا فنحن ذاهبون الى ابقاء الحكومة المستقيلة في مرحلة الشغور، والاحتكام الى الدستور في هذا الاطار. انها الأيام الأخيرة من العهد لكنها تزخر بالكثير من التفاصيل والعجالة على المستويات كافة لأننا نصل الى لحظة مفصلية من تاريخ لبنان، واذا وصلنا الى الشغور فندخل في مرحلة المجهول، لذلك لا يزال السعي قائماً الا أن الأفق ضيق وضيق جداً. وبغض النظر عن التفسيرات والتأويلات، فإن الدستور واضح، لكن هناك أمراً أساسياً ومهماً جداً يتعلق بتسهيل أمور الناس لأنها مسؤولية وطنية قبل أي أمر آخر. في حال حصل الشغور، سيلتزم ميقاتي بالدستور ويقوم بواجباته، وفي هذه المرحلة على الجميع القيام بواجباتهم لأنهم في مواقع مسؤولية أمام الناس.

وفي وقت تبدو الطريق غير سالكة بين بعبدا والسراي الحكومي، أقله الى اليوم، فإن “التيار الوطني الحر” قرر قلب الطاولة، وأراد أن يلعبها “صولد” من خلال التهويل بسلسلة اجراءات سيقوم بها في حال استمرار الحكومة الحالية في مرحلة الشغور الرئاسي بعد 31 تشرين الأول الجاري، متخذاً عنوان معركته السياسية “الحكومة المستقيلة وصلاحيات رئيس الجمهورية”، اذ هدد بأنه “إذا لم تشكل حكومة جديدة، فنحن ذاهبون إلى أبعد من فوضى دستورية واجتماعية”. وأشارت المعلومات الى أن من بين الخطوات التي يمكن أن يلجأ اليها رئيس الجمهورية، توقيع مرسوم قبول استقالة حكومة ميقاتي قبل مغادرته القصر الجمهوري لنزع أي شرعية لاستمراريتها، وذلك استناداً الى المادة 53 من الفصل الرابع في الدستور التي تنص على الآتي: “يصدر رئيس الجمهورية منفرداً المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة”. أما باسيل، فتعمد تسريب مضمون الاجتماع الذي عقده لوزراء “التيار” وقال لهم فيه: “علينا أن نكون حاضرين ومستعدين لِما بعد الفراغ الرئاسي. واذا لم تؤلف حكومة جديدة وبقيت حكومة تصريف الأعمال فممنوع عليكم حضور أي من اجتماعاتها، وعليكم أن تكونوا سلبيين وحاضرين في هذه الحال لمواجهة كل الاحتمالات والتطورات في الاطار الحكومي وخارجه”. ما يعني أنه يريد أن تفقد الحكومة ميثاقيتها وشرعيتها، وبالتالي، تعطيل عمل الحكومة الذي قد يترافق مع أزمة سياسية حادة وفوضى على أكثر من صعيد.

وفي هذا السياق، أوضح أحد الوزراء الدستوريين أنه “اذا لم تتشكل حكومة جديدة وتأخذ ثقة مجلس النواب، فلا يمكن ترك البلد مع انتهاء ولاية الرئيس عون بدون جهة تكون مسؤولة عن ادارة شؤونه اليومية، والحكومة المستقيلة هي المسؤولة عن هذا الأمر. الوزير المستقيل عليه واجبات متابعة تسيير أمور البلد، واذا أخلّ بالقيام بهذه الواجبات، يكون يخل بالواجبات المترتبة عليه، ما يرتب عليه مسؤوليات سياسية وجزائية بحيث أن أي متضرر يمكن أن يجازيه قضائياً. لذلك، مثل هذه الدعوات التي تعودنا عليها هي تدميرية للبلد، وكأنهم يقولون: اما أن نمسك بزمام الأمور أو التدمير. انها السياسة التي اتبعها الرئيس عون منذ أن تولى رئاسة الحكومة في أواخر الثمانينيات والتي لا يزال ينتهجها مع صهره الذي هو مترجم صادق لهذا التوجه التدميري. هذا المنطق تترتب عليه مسؤوليات تاريخية اذ لا تكفي لعنة هذا العهد، فيريدون مواصلة هذه اللعنة حتى بعد انتهاء الولاية الحالية من خلال تعطيل امكان تصريف الأمور العادية. كل ذلك بهدف الضغط على الرئيس المكلف كي يخضع لشروط العهد. من واجبات الوزراء، الاستمرار في القيام بمهماتهم وتسيير أمور البلاد، واذا لم يقوموا بذلك تترتب عليهم مسؤوليات شخصية بإخلالهم بواجباتهم تجاه الدولة. أما توقيع رئيس الجمهورية مرسوم قبول استقالة حكومة ميقاتي قبل مغادرته القصر الجمهوري فلا يعني شيئاً. انه مرسوم اعلاني وليس مرسوماً انشائياً، وبالتالي، اذا صدر المرسوم فلا يغير من واقع الحكومة. بعض المنظرين والمتفلسفين الذين يفسرون الدستور وفق مصالح بعض الأطراف، يقولون انه في حال صدر المرسوم، تتوقف الحكومة عن تسيير الأعمال، وهذا الكلام غير صحيح انما هرطقة دستورية كاملة. هذا المرسوم لا ينشئ حالة جديدة انما يعلن الحالة القائمة بصورة أكثر رسمية.

كما رأى أحد نقباء المحامين السابقين أن جزءاً كبيراً من مواقف “التيار الوطني الحر” المعلنة تركز على الهجوم الدائم على اتفاق الطائف على الرغم من أن رئيس الجمهورية قبل انتخابه أعلن التزامه به. من الناحية الدستورية، وفي حال عدم تشكيل الحكومة والبقاء على الحكومة المستقيلة حكماً بالقانون، على الوزراء الحضور فلا يمكن لأي وزير مقاطعة اجتماعات الحكومة خصوصاً اذا كانت هناك مسألة مصيرية وتتعلق بالصالح العام اللبناني. الامتناع عن القيام بعملهم يرتب عليهم مسؤوليات يمكن أن تعرضهم للملاحقة والمحاكمة بتهمة الاخلال والاهمال في العمل الوظيفي لأن الوزير موظف. ما يتم التهويل به في هذا الاطار من منع الوزراء المحسوبين على التيار من المشاركة في الاجتماعات، ليس قانونياً ولا دستورياً انما يمكن وضعه ضمن المواقف السياسية لأن الدستور واضح اما على الوزير أن يقوم بواجباته أو يقدم استقالته، ولا يجوز تعليق مصالح الدولة على خواطر ومنافع سياسية. وهنا علينا التمييز بين اجتماع الحكومة في حال توافرت شروط الاجتماع من أجل مواضيع طارئة ومهمة، وبين ممارسة الوزراء أعمالهم التصريفية في الوزارات بحيث أنه لا يمكن لأي وزير مقاطعة اجتماعات الحكومة في حال دعا رئيسها الى اجتماع، ويكون يمارس مهامه وصلاحياته في وزارته. اما على الوزير تقديم استقالته أو يمارس واجباته كاملة ويحضر الاجتماعات. وبالنسبة الى توقيع رئيس الجمهورية مرسوم قبول استقالة الحكومة، فالحكومة مستقيلة أصلاً بقوة القانون، والشكلية التي يتوقف البعض عندها ليس لها صدى دستوري وقانوني. وبالتالي، توقيع مرسوم الاستقالة لا مفاعيل له لأن الحكومة مستقيلة، وتعمل منذ مدة على قاعدة أنها حكومة مستقيلة. المرسوم شكلي ولن يؤثر على توصيف الحكومة ووضعيتها من الناحية القانونية، والتوقيع عليه لا يقدم ولا يؤخر في جوهر عمل الحكومة المستقيلة. كل ما هنالك أن فريق العهد يريد خلق عناوين عدة للمعارضة بعد انتهاء الولاية الحالية.

شارك المقال